تحليقات «أرزات الدولة» وتحويمات «طيارة السيد»

TT

حتى مساء يوم الخميس 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2012 كان اللبنانيون وعلى مختلف أطيافهم وطوائفهم ما زالوا على تباهيهم بطيرانهم المدني المقتصر على شركة واحدة اسمها «طيران الشرق الأوسط» وشعارها الأرزة. وهذا التباهي كان يعوضهم عن أنهم لا طيران آخر لهم عدا بضع مقاتلات رابضة في قاعدتين جويتين من دون أن تكون لها أي واجبات قتالية ضد إسرائيل وذلك عملا بمعادلة قائمة على اتفاق هدنة سرعان ما كسرها حزب الله بمقولة «قوة لبنان في مقاومته» ردا على مقولة «قوة لبنان في ضعفه».

والتباهي الذي نشير إليه من جانب اللبنانيين «سلاحهم الجوي المدني»، يعود إلى أن الشركة الواحدة كانت في زمن الرمزين المتميزين لتطويرها الرئيس الراحل صائب سلام والإداري الراحل نجيب علم الدين، مثالا لكفاءة الطيارين ومثالا للدقة في المواعيد ونموذجا للياقة في تعامُل الطاقم مع الركاب، كما كانت سخية في المأكل والمشرب الأمر الذي جعل إخواننا الخليجيين، ومن قبل أن تخطف الدور منها دبي الشيخ محمد بن راشد المكتوم ثم لاحقا دوحة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، يعتبرون مطار بيروت على بساطته أفضل محطة «ترانزيت» يرتاحون فيها ليلة أو أكثر ثم يتابعون السفر نحو عواصم دول أميركا شمالا وجنوبا وعواصم دول الشرق الأقصى وعواصم دول أوروبا وأفريقيا. ثم حدثت الصدمة الكبرى للشركة مع إدخال لبنان في أتون الصراعات وتحويله إلى ساحة احتراب ووصاية امتدت من ساحله إلى جبله إلى بقاعه ومن جنوبه إلى شماله. كما أن مطار بيروت خلا من بعض طائرات تلك الشركة الرائدة حيث تم تأجيرها بطواقمها إلى شركات عربية.

وبذلك لم يعد مطار العاصمة بيروت على رونقه كما أن العناصر الأمنية السورية جعلت منه معلما سياسيا أمنيا وتصدرت قاعاته صور الرئيس حافظ الأسد. وباتت الرحلات الجوية القليلة إليه ذات طابع لا علاقة له بالسياحة فضلا عن أن اللبنانيين لم يعودوا على حيوية السفر إلا في الحالات الاضطرارية. وفي ظل هذا الواقع المحزن بات إدخال المحظورات وتسفير الممنوعات أمرا مألوفا ولمصلحة أطراف لبنانية تلقى الحماية والغطاء من الوجود السوري.

بعد «اتفاق الطائف» بدأ مطار بيروت يستعيد خطوة خطوة بعض الرونق ثم كانت المبادرة النوعية من جانب الرئيس رفيق الحريري الذي أعاد ترميم المطار شكلا وموضوعا فحمل بالتالي اسمه عن أحقية والتأم شمل الطواقم التي غادرت والطائرات التي استؤجرت. وحتى عشية إعلان الأمين العام حزب الله السيد حسن نصر الله عن إشراك «طيران دولة الحزب» في أجواء «طيران لبنان الدولة» كان تباهي اللبنانيين بالأسطول الجوي لدولتهم يشق طريقه إلى نفوسهم وكانوا سعداء بذلك ومن دون أن يسأل السائلون منهم: لماذا لا يكون عندنا طائرات حربية ولماذا الاكتفاء بالبيانات الخجولة عن اختراق متواصل من جانب الطائرات الحربية الإسرائيلية للأجواء اللبنانية من جنوبه إلى شماله إلى بقاعه إلى ضاحيته معقل حزب الله وبمحاذاة منطقة القصر الرئاسي ومنطقة سراي الحكومة ومربض برلمان الرئيس نبيه بري.

ثم وفيما اللبنانيون على موعد مع محاولة حوار وطني يستهدف قوننة خطة دفاعية أعلن السيد حسن من على شاشة فضائية الحزب عن طيرانه الحربي مربكا بذلك أمنية اللبنانيين بإمكانية التفاؤل باستنباط الخطة التي عزز إمكانية اجتراح معجزتها جنوح رئيس الجمهورية ميشال سليمان نحو الصيغة الوفاقية وذلك مع اقتراب انصرافه بادئا الرسم في المشهد اللبناني في لوحة الرئيس المنحاز للسيادة ولغلبة الشرعية على ظواهر الأمر الواقع وتخفيف منسوب المسايرة لصديقه الرئيس بشَّار الأسد.

إعلان السيد حسن عن أن الطائرة التجسسية من دون طيار التي أسقطها الإسرائيليون قبل يومين من الإعلان كانت طائرته وأنها من صنع إيران وتم تجميعها في «لبنان دولة الحزب»، أحدث بطبيعة الحال رعشة خوف في نفس الرئيس سليمان، ذلك أن الطائرة هذه سلاح وقامت بتصوير مواقع إسرائيلية استراتيجية. وإذا كان هو كرئيس للبلاد لم يعرف سلفا بأمر هذه الواقعة فما الذي سيقوله للناس وللجيش الذي من صلاحيات قيادته القيام بعمليات من هذا النوع.. هذا في حال توفرت لديه الطائرات من دون طيار.

والخطير في الأمر أن السيد حسن أعلن عن وفرة في هذه الطائرات ما دام التجميع في لبنان وصناديق المعدات في المخازن.. هذا إلى جانب عنصر المباغتة من جانب الحزب المشارك في الحكومة وفي هذه الحال من واجبه إحاطة رئيس الحكومة ووزير الدفاع وكلاهما من حصة رضا السيد حسن عنهما، بما ينوي الحزب القيام به. لكن ذلك لم يحدث كي لا ينكشف الأمر وبذلك لا تتم العملية ولا يعود في استطاعة الحزب، لتفادي إحراج الرئيس وليس لعدم الإمكانية، إرسال المزيد من الرحلات - التحويمات.

بصرف النظر عن رأي الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بأن واقعة الطائرة «استفزاز متهور يدفع باتجاه تصعيد خطير يهدد زعزعة الاستقرار اللبناني» وذلك تناغما وتطابقا مع تحفظات أبداها قبل ساعات لبنان المعارض وعلى لسان فؤاد السنيورة (رئيس الحكومة السابق) لخصها بالقول «إن ما قام به حزب الله توريط للبنان كما أن القرار ليس لبنانيا بل إنه عمل إيراني أدخل لبنان في الصراعات الإقليمية والدولية».. بصرف النظر عن الرأيين المشار إليهما وتفهم ما يقوله الرئيس السنيورة كونه لم يبرأ من الذي حدث «لبنانه» عام 2006 عندما خطف حزب الله الجنديين الإسرائيليين وترتب على الخطف عدوان كارثي، فإن احتمال أن يتكرر العدوان وارد يقوم به نتنياهو مطمئنا إلى غطاء دولي من الأمم المتحدة يتمثل برأي أمينها العام الذي أوجزناه ويكون العدوان ورقة تدعم إمكانية فوزه في انتخابات ستتم يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2013. وعندما يقول الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد تعليقا على عملية «طيارة السيد» إن الشعب الإيراني«سيكون دوما إلى جانب الشعب اللبناني الشجاع والمقاوم وسيستفيد من الطاقات المتاحة» ويقول وزير الدفاع الإيراني الجنرال أحمد وحيدي «إن إطلاق حزب الله طائرة الاستطلاع من دون طيار في الأجواء الإسرائيلية يثبت القدرات العسكرية لطهران، وأن حزب الله الحق في إطلاق الطائرة في أجواء الدولة العبرية إذ إن الأخيرة تنفِّذ دوريا طلعات استكشافية في الأجواء اللبنانية..». فهذا يعني أن تحويمة «أيوب» كانت اختبارا أوليا لكن التحويمات ستتكرر وأن العدوان المحتمَل حدوثه هو لقطع الطريق على المزيد من التحويمات.

وفي الإطار نفسه يجوز الافتراض أن الغرض من التحويمة كان تحريضا لإسرائيل على أن تشن عدوانا على لبنان وفي هذه الحال ينشغل المجتمع الدولي بتداعيات هذا العدوان وينصرف عن انشغاله بالموضوع السوري الذي يزداد تفاقما، وقد تزداد أكثر فأكثر حدة التفاقم إلاَّ إذا تم الأخذ «هدنة عيد الأضحى» التي دعا إليها الأخضر الإبراهيمي مع ملاحظة أن الدعوة سبقت حلول يوم العيد بأحد عشر يوما، ولا ندري لماذا لم يحدد الإبراهيمي البدء على الفور بالهدنة خصوصا أنه في خلال الأحد عشر يوما سيكون وفق الحصيلة اليومية للقتلى سقط حوالي ألف ومائة مظلوم وأضعاف الرقم جرحى وعشرات المباني دُمرت وألوف الناس هاجروا أو لجأوا. في المقابل فإن من المكاسب التي حققتها تحويمة «أيوب» حزب الله أنها أدخلت الخوف إلى نفوس الإسرائيليين والارتباك إلى حكومتهم وقيادتهم العسكرية كون التحويمة رفعت معنويات جمهور الحزب في وقت تراخت هذه المعنويات بعض الشيء لكن في الوقت نفسه أدخلت الخشية إلى نفوس أطياف كثيرة من أن يكون الرد الإسرائيلي على العملية خطيرا وأن استباق ذلك بإعادة انتشار للناس أمر وقائي لا بد منه. من مكاسب التحويمة أيضا أنها تمت من حيث عنصر المفاجأة والتحدي بأسلوب في غاية التبسيط مثل عبور القوات والدبابات المصرية قناة السويس في حرب 1973 على جسور من خشب وتدميرها خط بارليف بمضخات ابتكرها العقل المصري.

وأما خيبة الرئيس ميشال سليمان والمؤسسة العسكرية من الذي جرى فإنها تزداد تفاعلا إلاَّ إذا انتقل رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل النصف الثاني للطائفة الشيعية من المتحفظ صمتا إلى اللائم قولا. وفي هذا ما يطمئن جمهور الطائفة من مخاطر قد ينجح حزب الله بصواريخه الألوفية في الرد عليها بمخاطر تصيب المعتدي. لكن في نهاية الأمر سيدفع لبنان واللبنانيون من دون تمييز الثمن الباهظ ولا تكسب القضية الفلسطينية شيئا ملموسا ما دام المجتمع الدولي وبالذات أميركا بالرأسين الجمهوري والديمقراطي وروسيا بالفكر البوتيني وأوروبا بالثعلبة المخجلة والفاتيكان المتساهل المتسامح والأمة الإسلامية الصارخة في الوادي، على موقفه المحتضن لإسرائيل معتدية ومحتلة.

وبالعودة إلى ما بدأناه فإن اللبنانيين عموما يريدون وفي هذه الظروف بالذات أن تكون الأجواء مقتصرة على تحليقات «أرزات طائراتهم المدنية» ليس ضيقا بالمقاومة.. وإنما من أجل أن تنتهي ظاهرة استعمال لبنان ساحة مشرعة الأبواب لتحقيق مآرب الآخرين.