حينما أنقذ «الشاب» عبد الله بن عبد العزيز عائلة شيخ الأزهر

TT

عشت أواخر طفولتي في حي الملز بالرياض، حيث أسكن مع والدي - رحمه الله - في شارع كنا نسميه شارع الأمير عبد الله، وفي نهاية هذا الشارع كان يسكن الأمير عبد الله بن عبد العزيز. كنت ألعب مع الفتيان في الشارع، وتكرر أن مر الأمير عبد الله بسيارته يقودها بنفسه، فيرفع يده مسلما علينا ويمضي في طريقه.

لست وحدي، وإنما كل الأطفال والصبيان آنذاك، ورغم هيبته، لكننا كنا ننظر إليه كوالد بمحبة واحترام، حتى إننا كنا ربما تركنا الصلاة في المسجد القريب من بيوتنا، لنذهب ونصلي في المسجد الذي يصلي فيه كي نراه.

وعقب إحدى المرات التي رأيته فيها جلست مع والدي وضيوفه أصب لهم القهوة، وكنت فرحا برؤية الأمير، فقلت لهم: مر الأمير ونحن نلعب فسلم علينا. فابتسم والدي - رحمه الله - وقال: حين جئت الرياض، وأقمت فيها أيام الملك عبد العزيز - رحمه الله - حضرت سباق الخيل، فرأيت شابا جسيما طويلا قوي البنية، يسابق الريح فوق فرسه، وجدايله - ضفائره - تضرب أكتافه، وفاز في السباق، فسألت: من هذا الفارس؟ فقالوا: عبد الله بن عبد العزيز. وانتقل الحديث بين ضيوف الوالد، وكل منهم يروي قصة عن الأمير، وبمجملها كانت عن شهامته وفروسيته وقوته البدنية. ومن بينها حكاية قالها أحد ضيوف الوالد ذكر فيها أن الأمير عبد الله بن عبد العزيز أنقذ عائلة مصرية من الموت في السنة التي حج فيها المتحدث.

متى حج هذا الرجل؟ ما هي القصة؟ لا أدري ولم أسأل، ولم تكن سني تسمح بإدراك مثل هذه الأمور.. ولكني استرجعت مؤخرا هذا الحديث كله، واستعادته ذاكرتي ربما لأول مرة، وسبب ذلك أني كنت أقرأ في جريدة صدرت في أواخر عام 1365هـ، أي بعد موسم الحج مباشرة، فرأيت في هذه الجريدة ما كنت سمعته أيام الطفولة، ولكن بإيضاح دقيق للحقيقة، وتفاصيل القصة وتاريخها.

في حج عام 1365هـ قدم إلى مكة حاجا شيخ الأزهر الشهير الأستاذ الأكبر مصطفى عبد الرازق، أمير الحج المصري، ومعه بعض أفراد أسرته. وبينما كان أفراد أسرته في سيارتهم في منأى عن الناس، تعطلت سيارتهم في جانب من الرمال، وظلوا تحت أشعة الشمس الحارقة، لا معين لهم إلا الله، ولا أمل لهم في إصلاحها. وتمر اللحظات شاقة عسيرة، وإن سلموا من الخطر والضرر، فإن بلوغهم عرفات وإدراكهم الحج ضرب من المحال، وما أمَرّها على من قطع الطريق من القاهرة إلى مكة كي يحج، فلم يدرك الحج، وفاته وهو منه قاب قوسين أو أدنى.. يا لحسرة هذه العائلة، ويا لبؤسها!

كانت السيارات في تلك الفترة قليلة جدا، وكل أملهم أن تمر بهم بعض الإبل فتحملهم لتنقذهم، أما بلوغهم عرفات فدونه خرط القتاد. يطبق الصمت، بعد أن حاروا في أمرهم، وتقطعت بهم السبل. ألم وانتظار وتفكير مقلق يجوس في أذهانهم، ويقض مضاجع راحتهم.. إنها باختصار حالة من الهلع والحزن. وتهب لهم من بعيد نسائم البشرى، فمن هناك سيارة تذرع الأرض وتقطعها على عجل قادمة إليهم، فيقفون فرحا واستبشارا بقدوم وجه الخير والسعد، وينزل منها شاب طويل تلوح في محياه سمات الشهامة والنبل، فيسلم عليهم، ويسأل عن حالهم، فلما اطمأن عليهم، طلب منهم أن يرافقوه في سيارته حتى يستطيعوا إدراك الحج، وكان هذا أقصى ما يتمنون. فركبوا ومضت سيارة الخير متوجهة بهم إلى عرفات، يقودها الشاب الشهم، وكلهم معه، فتحدث إليه كبيرهم الشيخ محمد أحمد عبد الرازق، ابن أخي شيخ الأزهر، وسأله: من أنت؟ فقال الشاب: عربي مسلم من أبناء الشعب السعودي. فأصر الشيخ عليه: أخبرني من أنت أيها الشهم؟ ويصر الشاب على عدم كشف هويته، ويمضون في طريقهم بين أخذ ورد حتى وصلوا، فأصر الشيخ محمد عبد الرازق على هذا الشاب أن يخبره من هو، وأمام إصراره وإلحاحه لم يجد الشاب بدا من أن يجيبه: أنا عبد الله بن عبد العزيز. ثم يودعهم ويمضي لحال سبيله.

الأمير يرى أنه لم يفعل سوى الواجب، هكذا هي أخلاقه، وهكذا تربى في مدرسة عبد العزيز. بينما الشيخ المصري يرى في تصرف عبد الله بن عبد العزيز شهامة ورجولة، فقد أنقذهم، وبفضل الله ثم بفضل الأمير الشاب سلموا وغنموا بإدراكهم الحج. ولا بد أنه أخبر عمه شيخ الأزهر، لأننا نجد شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق يزور الملك عبد العزيز بعد الحادثة بيومين، ومن المحتمل أنه جاء ليشكره على تصرف ابنه النبيل، ويخبره بالقصة.

كما أقام شيخ الأزهر وأمير الحج المصري الشيخ مصطفى عبد الرازق مأدبة بعد هذه الحادثة، وحرص على أن يدعو لها الأمير عبد الله بن عبد العزيز تقديرا له على موقفه الشهم النبيل، فحضرها الأمير عبد الله.

أما ابن الأخ محمد أحمد عبد الرازق، فلم يقر له قرار حتى أعلن شكره للأمير الشاب عبد الله بن عبد العزيز، فذهب إلى صحيفة «أم القرى» والتقى برئيس تحريرها، وحكى له ما حدث، طالبا منه أن ينشر شكره وتقديره للأمير الذي «تمثلت فيه المروءة، وتجسم فيه الخلق الكريم».

يقول الخبر المنشور في جريدة «أم القرى»، عدد «1132» بتاريخ الجمعة 15 ذي الحجة 1365هـ: «زار إدارة هذه الجريدة فضيلة الشيخ محمد أحمد عبد الرازق، ابن أخي فضيلة الأستاذ الأكبر، أمير الحج المصري، وقال لنا إن سيارته تعطلت براكبيها في جانب من الرمال أثناء صعوده إلى عرفات، فالتقى بهم في تلك الأثناء شخص تمثلت فيه المروءة وتجسم فيه الخلق الكريم، بادر إلى إنقاذهم ولم يبرح مكانه حتى نقلهم في سيارته وبلغ بهم إلى مكانهم الذي يقصدون وهو الحج، فلما ألحوا في معرفته تبينوه وإذا هو حضرة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، نجل جلالة الملك المعظم، وقد انطلق لسان الشيخ ومن معه بالثناء على سموه والدعاء لجلالة الملك المعظم».

رحمك الله يا عبد العزيز، أيها المؤسس العظيم، وأطال الله عمرك بصحة وعافية يا عبد الله بن عبد العزيز، ووفقك لكل خير أيها الملك الذي أحب وطنه وبنات وأبناء الوطن كبارا وصغارا، وعمل من أجل صالحهم وصالح الوطن بكل جد واجتهاد، فأحبوه بكل صدق وإخلاص، ودعت له قلوبهم قبل ألسنتهم بالصحة والعافية والتوفيق وطول العمر، ورحمك الله يا والدي، فكم سمعت منك ومن جلسائك أحاديث لم أعِ أهميتها إلا بعد ردح من الزمن.

* كاتب وباحث سعودي