نظام أمن أم قمع!

TT

يقيم النظام السوري تطابقا كاملا بين الأمن والقمع، ويسمي أجهزته القمعية «أجهزة أمن»، مع أنها السبب الرئيس في عدم وجود أي أمن في سوريا منذ نيف وأربعين عاما، ليس فقط لأنها تضع نفسها فوق القانون، أو تعطل الدولة وتلغي مؤسساتها وشرعيتها، أو تتحكم بكل كبيرة وصغيرة في الدولة والمجتمع، بل كذلك لأنها تدار من أشخاص يفتقرون إلى أبسط مقومات الوطنية والسلوك السوي، ممن انتسبوا إليها شحاذين وصاروا بفضلها مليارديرات، واستخدموها لممارسة جميع أنواع المحرمات والموبقات، حتى طال أذاها كل سوري على وجه التقريب، كيف لا وهي مكلفة، على حد قول رمز من رموزها قاد بعد عام 2000 فرع الأمن الداخلي في دمشق، بـ«احتواء المجتمع»، مع ما يتطلبه نجاح مهمة مستحيلة كهذه من احتجاز أي إصلاح أو تغيير في الوضع القائم، ومن سيطرة مطلقة على الأفراد والجماعات، كما على الأفكار والإرادات، ومن تدخل في حياة المواطنين الشخصية وما يتطلبه من وجود «أنظومة» قمعية متشعبة تغطي كل شبر في سوريا، وتفرد شبكاتها في طول البلاد وعرضها، لتخترق اقتصادها ومجتمعها ومؤسساتها وتخضع كل أمر لإرادتها، وتهيمن على كل شيء، وتضع يدها على مختلف مرافق الحياة بما في ذلك «تنمية» الثروة، أي بيع ما تريد بيعه منها في الداخل أو تهريبها إلى الخارج.

بهذه الصلاحيات المطلقة، يكون من الطبيعي أن تتدخل الأجهزة في تعيين الموظفين وصرفهم من الخدمة، ومراقبة إجازاتهم والموافقة عليها أو منعهم من أخذها، وأن توجد في كل وزارة «لجنة أمنية» تشرف عليها، فليس وزيرها، المسؤول سياسيا عنها، غير «شخشيخة» – كما يسميه السوريون احتقارا – بيد ضباط الأمن، حتى إنه لا يجرؤ حتى على استقبال صديق إن كانت تمانع في دخوله إلى الوزارة، ولا «يمون» على أي موظف من موظفيها، ولا يستطيع البت في أي شأن، إلا بعد موافقة اللجنة، التي لها «مندوب» في كل دائرة ومكتب، «يطلعها» على تفاصيل ما يجري من أحاديث وعلاقات ومعاملات... إلخ. والحقيقة أنه لا حصر للأمثلة التي تبين حجم تغول الأجهزة القمعية ومدى فسادها، منها ما حدث للدكتور عصام الزعيم وزير الصناعة الذي استدعاه بشار الأسد من البرازيل كي يشرف على الإصلاح الاقتصادي، فحاصره جهاز القمع وحال بينه وبين تطبيق خطة إصلاحية وضعها بالتعاون مع الخبراء الاقتصاديين، قبل أن يلفق له تهما تتصل بالفساد وهدر المال العام؛ لأنه أرغم شركة ألمانية على دفع مستحقات مالية كبيرة للحكومة السورية، بينما كان كبار رجال الأجهزة القمعية يساومونها على إعطائهم جزءا منها مقابل إعفائها من دفع كامل المبلغ. هكذا، اتهم الفاسدون الأمنيون، الذين حركوا أتباعهم في كل موقع ومرفق ونظموا حملة أكاذيب طالت ماضي وحاضر خصمهم وجعلت من وزير شريف رمزا للفساد ومن الفاسدين مدافعين عن مصالح ومال الدولة والشعب، إلى أن نحّوه جانبا وألبوا عليه بشار الأسد وأرغموه على إقالته وتركه عرضة لملاحقات مخابراتية يومية انتهت بموته بعد حين متأثرا بجلطة دماغية. ومن الأمثلة على عمل جهاز القمع قصص تبدو من تأليف كتاب الخيال العلمي، منها أن مناقصة أعلنت لشراء ألف باص للمدن السورية. وعندما جاء مندوب شركة «فيات الإيطالية» للاشتراك في المناقصة اعتقله «جهاز أمن» القوى الجوية، الراغب في شراء سيارات «مان الألمانية»، وحين وصل مندوب الشركة الألماني اعتقله «الأمن العسكري» الراغب في شراء السيارات الإيطالية. بعد أسابيع أمضاها الرجلان في المعتقل، جلس مندوبو الجهازين إلى طاولة التفاوض وقرروا شراء خمسمائة باص من كل شركة بالعمولات والإتاوات التي حددوها، ثم أخرجوا مندوبي الشركتين إلى فندق الشيراتون الفاخر، ليوقعوا الصفقة معهما وسط احتفال تلفزيوني طنان يحتفي بتنمية البلد بيد رجاله المخلصين!

الأصل في القمع إلغاء الأمن، بينما الأمن ليس قمعيا لأنه يقوم على مكونات وجوانب سياسية - اقتصادية - اجتماعية - ثقافية - آيديولوجية متشابكة. القمع عنف والأمن سلام ينتج عن تطبيق القانون والالتزام به واحترام مؤسساته، بينما يعيش القمع من انتهاك القانون واحتقار أجهزته وإخضاعها لنزوات الممسكين به. وفي حين يحمي الأمن حياة المواطن وحقه في الحرية والكرامة والعدالة، يتنكر القمع لهذا لجميع حقوقه، وينكر أن يكون هناك مواطن أصلا. وبينما يعتبر الأمن سياسة تمارسها هيئات شرعية، منتخبة وعلنية، يمارس القمع على يد جهات سرية، غير منتخبة وغير شرعية، تستمد قوتها من إضعاف الشعب وإرعاب أجهزة السلطة الحكومية والاعتداء على رموزها والعاملين فيها. إلى هذا، لا يحتاج الأمن إلى أناس يخترق بواسطتهم الحياة العامة، بل إلى من يقومون بإدارتها وفق أسس قانونية ملزمة وعلنية، ويدير القمع الشؤون العامة بالقوة والعنف والابتزاز والأساليب السرية. أخيرا، فإن هدف الأمن هو خير المواطن، أما هدف القمع فتخويفه وشل حركته وإرغامه على قبول كل ما يأتيه من فوق، مهما كان مجافيا لمصالحه ومتناقضا مع خياراته. لا حاجة إلى القول إن رجل الأمن يخدم الهيئة المجتمعية العامة، أما رجل القمع فهو يضع الهيئة المجتمعية العامة في خدمته، ويحولها إلى تابع ذليل له. وفي حين يعالج رجل الأمن المشكلات بالقانون والتدبير السياسي، يعالجها رجل القمع بالعنف والقسر، خارج أي قانون أو منطق أو مصلحة وطنية وعامة.

ثمة في العقد السياسي فكرة تأسست بفضلها الدولة الحديثة هي تخلي المواطن عن حقه في العنف مقابل أمنه وحمايته من القمع، ولكي تتمكن الدولة من إخراج العنف من الشأن العام وحياة المواطنين، سواء أخذ صورة أعمال قتالية أم قمعية. هنا، يوجد ثمة فارق تكويني وجذري بين القمع والأمن، فالأول يعني إعادة العنف إلى الحياة العامة والخاصة وانتهاكها وتشويه دور الدولة وتبديل طابعها ووظائفها، أما الثاني فليس له غير معنى واحد هو: إخراج العنف من المجال العام، واستبداله بالسياسة وأداواتها إبان تسوية ما قد ينشأ بين المواطنين أو بينهم وبين السلطات من مشكلات.

ليست الدول القمعية دولا أمنية أو آمنة. وهي لا تقوم أصلا بمهام ووظائف الدول، بما أنها تضع نفسها في عداء دائم مع مواطنيها، وتنظم علاقاتها معهم بوسيلة وحيدة هي العنف والقمع. ولعل ما يجري في سوريا اليوم يبين الفارق بين الأمن والقمع، فالأول سلام والثاني حرب، والأول فضاء حواري وتفاوضي مفتوح بين المواطنين وبينهم وبين الدولة، والثاني زنازين سرية مغلقة ولا شرعية تستخدمها السلطة الاستبدادية كي تمتنع عن تنظيم علاقاتها مع مواطنيها وفق أسس قانونية متوافق عليها، ترفضها لأنها ترفض أي تعاقد سلمي مع الجهة التي تريد إخضاعها بالقوة والحيلولة دون تلبية مطالبها؛ لأنها ترى في تلبيتها علامة ضعف لا يجوز أن تظهرها خلال تعاملها معها، كما قال بشار الأسد في بداية الأزمة السورية، عندما قطع الطريق على الحلول السلمية، على الأمن، وشرع يدفع سوريا إلى خيارات قمعية جسدها العنف الذي دمرها بيتا بيتا وشارعا شارعا.

يخلط النظام السوري عن عمد بين مفهومي القمع والأمن، فيسمي القمع أمنا، مع أنه أبعد شيء عنه. واليوم، لعل أكثر ما تحتاج سوريا إليه الآن هو الأمن الذي سيخرجها من قمع سلطوي إجرامي دمر حياة وكرامة شعبها. فلا عجب أنه عازم على استعادة أمنه بفضل ثورة الحرية التي فجرها منذ عام ونصف العام، لاعتقاده الصحيح أن الحرية تعني الأمن والأمن يعني الحرية، وأنهما يتلازمان في أي دولة تحترم نفسها وتستحق اسمها، وسيكونان متلازمين في الدولة السورية الحرة، التي ستحترم نفسها وتوفر الأمن لمواطنيها، وستنهي جميع أشكال قمعهم!