الخليج.. حديقة وسط حريقة!

TT

في ديسمبر (كانون الأول) من نهاية العام الحالي، ستعقد قمة خليجية في البحرين، يفترض أن تكون قمة غير تقليدية، قمة تواجه الأسئلة الصعبة، أسئلة الخليج في غليان يحيط بدول الخليج من كل جانب، ونيران تضطرم في بيوت الجيران وأفنيتهم، ومس شواظها وشررها الحدائق الخلفية لبيوت أهل الخليج.

هذه هي القمة الأهم منذ بدء ما سمي بموسم الربيع العربي، أو الفوضى العربية، في دول الخليج، طبعا بعد قمة الرياض في نهاية 2011، التي انطلقت فيها دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز للتحول من حالة «التعاون» إلى حالة «الاتحاد»، وهو الأمر الذي رحب به قادة الخليج في بيان الرياض النهائي، وأوكلوا أمره إلى اللجان المختصة، ويفترض أن يتخذ في شأنه خطوة عملية ملموسة في قمة المنامة.

الأمر جلل، والتحديات خطيرة ومصيرية، والكل يتربص بهذا البحر الذي يختزن الطاقة والنعمة والاستقرار، فيها جواهر مثل: دبي وأبوظبي ومسقط وصلالة والمنامة والدوحة والظهران والدمام والجبيل والكويت، يجمع بينها التاريخ والعادات والمصالح، ويعترضها نفس التحديات والأعداء، الخارجي منها والداخلي.

الأمر ليس عاطفة، بل هو ضرورة، ومطلب للناس، الاتحاد قوة، والتفرق ضعف، في الأحوال العادية، ما بالك والكل يتربص بهذه الدول الآمنة المطمئنة الحسنة العيش، قياسا بالجيران، كل الجيران؟

منذ اندلاع الفوضى والثورات في العالم العربي في ديسمبر 2010 إلى ديسمبر الذي ستعقد فيه قمة المنامة، والكل يريد نقل حالة الثوران إلى دول الخليج العربي، وها نحن نرى كيف يحاول البعض جاهدا ذلك، إن في الإمارات، أو في البحرين، أو في السعودية، والآن في الكويت، نعم الكويت التي تتمتع ببرلمان حقيقي عمره نحو نصف قرن، وصحافة غاية في حرية التعبير، لكن كل هذا لم يشفع لهذا البلد لدى الراغبين في جعل الكويت حالة من حالات الربيع العربي، ولو بالتكلف، ومحاولة نسخ شعارات كانت ربما ملائمة وفعالة في الحالة المصرية والتونسية، لكنها غير ملائمة ولا مقنعة في الحالة الكويتية، بعيدا عن نقاش تفاصيل من يحرك الشارع ويثيره الآن في الكويت، ولماذا، ومن هو الطرف «العميق» المستفيد من هذه الإثارة، رغم أن ثوار مصر نفسهم أخذوا في التشكيك بل والثورة الثانية على تيار الإخوان المسلمين الذين كانوا يعتبرونهم حلفاء الميدان والثورة، لكنهم الآن يعتبرون الإخوان أخطر أعداء الثورة، بل ووصل الحال ببعضهم إلى تشبيه الإخوان بالحزب الوطني بل وأسوأ من ذلك، وكان من الظريف أن بعض الثوار المصريين صنعوا «هاشتاغ» أو «وسم» على موقع «تويتر»، بمعنى موضوع مستقل، تحت عنوان بالدارجة المصرية: «نصايح مصرية لإخوانا الكوايتة»! وكله حافل بالمرارة من تساقط الشعارات الثورية مع الإخوان وتبين المصالح السياسية الحقيقية لهم التي كانت مقنعة بشعارات الثورة الرومانسية الجامعة... غير أن هذا حديث آخر، أعني الكويت، له مناسبة أخرى.

بالعودة إلى موضوع الاتحاد الخليجي، ففوق التحديات الأمنية الداخلية، في البحرين والسعودية والإمارات، هناك التحديات الأمنية الكبرى في الخارج، وعلى رأسها الجارة الكبرى على الضفة الشرقية للخليج، إيران الخمينية، التي هي في حالة هياج وتوتر، تريد جر الجميع معها إلى حرب شاملة تفك عنها الخناق الاقتصادي والسياسي (قد يكون موسم الحج هذه السنة غير عادي.. للتنبيه فقط) وتريد «عصر» كل أوراقها الإقليمية في العراق ولبنان واليمن وسوريا ودول الخليج. ومن هنا نفهم خطر الحوثيين و«القاعدة» وحتى الحراك الجنوبي، في اليمن، أو بعضه على الأقل، وكذلك خطر سياسيات نوري المالكي في العراق، التابع الأمين لإيران، ناهيك بالحرب العوان والسافرة في سوريا، ومحاولة جر لبنان إلى أتون النار، وآخر ذلك اغتيال الضابط الكبير وسام الحسن، كل هذه أخطار تحيط بدول الخليج، وهناك من يريد توتير الوضع الداخلي في دول الخليج، والنفخ في نار المطالب، بل لنقل «المظالم» الداخلية إن شئت، من أجل إشغال دول الخليج بنفسها وإضعاف قدرتها على المساهمة الفعالة في جهود المحاصرة والمواجهة مع مشروع إيران الخطير في المنطقة.

هذا في ما يخص الخطر الأمني، الداخلي والخارجي، الذي هو مصب حديثنا هنا، ولكن تبقى مخاطر أخرى تخص التنمية والطاقة والعمل والتخطيط ومجال الشباب والتعليم والرياضة والماء، كلها ملفات حيوية تمس الناس كلهم، وهي لا تقل أهمية عن الخطر الأمني، بل إن النجاح على هذا الصعيد يفيد كثيرا تقوية الجهود على الصعيد الأمني الكبير.

أما المشروع الآخر الخارجي - الداخلي، الذي يشمل بخطره دول الخليج، كلها - باستثناء دولة واحدة، حتى الآن على الأقل - فهو المشروع الإخواني، لأنه مشروع أممي عابر للحدود، ولأنه يرى في دول الخليج تفاحة كبيرة، فهي الثروة الصافية، والناس الطيبون، والأرض البكر غير المنهكة بالتيارات السياسية العريقة في التفكير المدني و«العلماني» كما يحبون التشويه، أو التيارات المخالفة للإخوان في رؤيتهم السياسية والدينية، كما هو الوصف الموضوعي لها.

الإمارات والسعودية والآن الكويت، هي أكثر الدول الخليجية التي تعرضت للدعاية المضادة من نشطاء الإخوان، وثمة محاولات حثيثة لضمها إلى ركب الدول المستهدفة بـ«الربيع الإخواني» مع تزيين هذا الربيع ببعض الرتوش المدنية غير الإخوانية، لزوم المرحلة، حتى يتم الانتهاء من «الخصم» المشترك، أيا يكن شكل هذا الانتهاء، إما بشكل كامل ومادي، وإما عبر إضعافه وتفريغه من جوهر قوته.

من هنا، من التحديات الداخلية والخارجية التي تشمل كل دول الخليج، حتى وإن ظل بعض نخبها يغالط أو يكابر، تصبح الحاجة الآن ماسة، بل ووجودية، للشروع فورا في هذا الاتحاد.

في القمة الماضية، ديسمبر الماضي، وأثناء اجتماع قادة الخليج بالرياض، أطلق العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز دعوته الشهيرة للانتقال بالإقليم الخليجي من حالة «التعاون» إلى «الاتحاد»، وأشارت دعوة خادم الحرمين حينها إلى حجم المخاطر الكبيرة التي تحيط بالشقيقات الست. وكان ذلك الخطاب وجزيرة البحرين تلتهب بنار فارس الواضحة.. وما زالت. وقد أضيفت أخطار أخرى منذ ذلك الوقت، آخرها ما يجري في الكويت، والاستهداف الإيراني المتتابع للسعودية.

الآن لحظة مواجهة الذات، وحماية المركب الخليجي، عبر سد ثقوبه الداخلية، وشد أشرعته وحماية خزائنه وصقل سواريه، وتحديد اتجاه بوصلته، وتشجيع بحارته، ورفع الهمة والصوت بأهازيج «اليامال»، وشحذ الهمة على شطآنه برقصات الحرب، ونسمات السامري والهجيني، فلكل حالة لبوسها، إما نعيمها وإما بؤسها.

لقد انهارت منظمات عربية أخرى، سابقة، بسبب تناقض المصالح، مثل مجلس التعاون العربي (الأردن، العراق، مصر، اليمن)، وقبله حلف بغداد والاتحاد الهاشمي والاتحاد المغاربي.

أهل الخليج، حالهم واحد، ومصيرهم واحد، والأخطار التي تهددهم واحدة، وأنظمتهم متشابهة بدرجة كبيرة، مع فروقات هنا وهناك، كلهم من ذات العجينة الثقافية والتاريخية، ومستقبلهم واحد، ويتشاطأون بحرا واحدا.

إنهم الآن «حديقة في وسط حريقة»!

لا وقت للتشاجر والتناحر.

يقول الباحث الكندي المتخصص في المصريات دونالد ريدفود، وهو يخرج بخلاصته النهائية عن أثر بعض الخلافات بين الفراعنة في ذلك الوقت: «متى تشاجر طرفان ابتهج طرف ثالث!».

[email protected]