..لهذا لن يستقر لبنان!

TT

لبنان ضحية نفسه والآخرين. فهذا البلد الصغير كتب عليه أن يدفع فواتير كبيرة يسددها من أمنه واستقراره ودماء أبنائه، وفرض عليه أن يعيش في أحسن الأحوال في حالة هدنة هشة ومتوترة، محروما من الاستقرار الحقيقي والسلم الدائم. يختلف اللاعبون، ويتباين الجناة، لكن النتيجة دائما واحدة. يبقى البلد مطلا على حافة الهاوية، تتقاذفه حسابات خارجية وصراعات داخلية لا تنتهي، لأن التعايش الداخلي يراد له أن يظل هشا، والقاعدة المعمول بها بين الأطراف هي «لا غالب ولا مغلوب»، إلا لبنان ذاته فهو يبقى مغلوبا دائما على أمره.

لبنان مستباح، لأن وحدته الوطنية لا توجد إلا بالاسم، وتوتراته الطائفية تجعل مسامه مفتوحة لكي ينفذ منها كل من يريد أن ينهش فيه، أو يصفي حساباته مع الآخرين على أرضه. تجار الشعارات في الداخل استمرأوا بيع القرار الوطني للأطراف الخارجية، ووضعوا مصير بلدهم في أيادي الآخرين، حتى أصبح سلعة في مزاد السياسة ومزايداتها، وساحة مفتوحة لحروب الآخرين وصراعاتهم. فكم من الحروب دارت على أرض لبنان بالريموت كنترول، وكم من التصفيات حدثت بقرارات من الخارج، وكم من ملفات الاغتيالات بقي مفتوحا والقاتل مجهولا؟ قليلون هم الذين سعوا لمساعدة لبنان على الخروج من محنته، وكثيرون الذين أرادوا إبقاءه خاضعا لحساباتهم، ومرتعا لحروبهم.

جريمة اغتيال اللواء وسام الحسن رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي لا تختلف في دوافعها وأهدافها عن كثير من الاغتيالات التي عصفت بلبنان، أي إحداث هزة تزيد في الشحن والتوتر، وتدفع البلد إلى فراغ، وإلى فتنة طائفية ترميه إلى الحرب أو تضعه على حافتها. فهناك ما يشبه الإجماع على أن توقيت الجريمة واختيار المستهدف بالاغتيال يرميان إلى تفجير الوضع الداخلي الذي بقي متوترا منذ اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وازداد توترا بعد الأزمة السورية. وكثيرون يرون رابطا بين اغتيال اللواء الحسن وقضية توقيف الوزير السابق ميشال سماحة قبل تنفيذه مهمة اعترف بأن أوامرها صدرت من دمشق. ففي الحالتين كان المطلوب هو تفجير الوضع الداخلي ونقل الحرب السورية إلى الأراضي اللبنانية. فلبنان يبقى هو الحلقة الأضعف بين جيران سوريا، مع وجود حلفاء أو وكلاء وعملاء فيه مستعدين للاصطفاف وراء دمشق وتنفيذ حسابات توسيع الحرب لتخفيف الضغط عنها وإرباك حسابات إقليمية ودولية، خصوصا أن سقوط النظام السوري سيشكل ضربة لإيران وسيضعف حزب الله. من هذا المنطلق رأينا تصعيدا متزايدا على الحدود السورية – التركية، ومحاولات لنقل التوتر إلى الأردن والعراق، وفي هذا الإطار أيضا يمكن النظر إلى توقيت إطلاق الطائرة من دون طيار التي حلقت فوق إسرائيل وتبناها حزب الله.

العقلاء في لبنان سارعوا إلى احتواء الغضب الذي تفجر بعد اغتيال اللواء الحسن حتى لا يحقق المخطط أهدافه، وينزلق لبنان إلى الحرب. لكن المشكلة بقيت في كيف يكون الرد، وهل تستقيل الحكومة أو تقال؟ وإذا ذهبت الحكومة ماذا يكون البديل، وهل يستطيع هذا البديل أن يعمل في ظل التجاذب السياسي والتوتر الطائفي؟

رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قال: إنه غير متمسك بالمنصب، لأنه ينتمي إلى طائفة تشعر بأنها مستهدفة، ويستشعر غضبها، ولا يستطيع أن يتحمل مسؤولية دم الحسن. لكن حتى هذه الاستقالة التي كانت ستبدو طبيعية في أي بلد آخر يمر بما يمر به لبنان، لا تبدو أمرا سهلا يمكن الالتقاء حوله ولو بين الحلفاء. فبينما يرى كثيرون أن الاستقالة هي أقل ما يمكن أن يفعله رئيس الحكومة، فإن هناك أيضا من يرون أنها لن تحل المشكلة، بل ستضيف مزيدا من التشويش والتعقيد، وقد تؤدي إلى فراغ، لأن تشكيل البديل سيواجه عقبات من القوى المتحالفة مع دمشق، وأن هذا الفراغ سيزيد في التوتر الطائفي، وقد ينتهي إلى اشتعال الوضع، مما يعني أن من اغتالوا اللواء الحسن نجحوا في النهاية في تحقيق هدفهم. وفي ظل هذه الصورة المربكة تبقى حكومة الوحدة الوطنية حلما بعيد المنال، لأن مثل هذه الحكومة حتى لو شكلت بمعجزة، فإنها لن تنجح إذا لم يكن لبنان موحدا بالفعل، ومتفقا على استقلال قراره، وإذا لم يكن سياسيوه متحدين حول رفض التدخلات الخارجية، وبعيدين عن تأثيراتها.

هل هناك من حل؟

الجواب المحزن أنه لا حل حقيقيا في الأفق ما دام لبنان منقسما على نفسه، ومتوترا طائفيا، وكثير من أبنائه يقدم الولاء للطائفة على الولاء للوطن، ويتجه للاستقواء بالخارج بدلا من تحصين الداخل وتمتين وحدة البلد واستقلال قراره. قد يتداعى الناس اليوم، كما تداعوا بعد اغتيالات أو أزمات أخرى، لحكومة إنقاذ، أو لعقد جولة أخرى من جولات الحوار الوطني، لكن ذلك لن يكون إلا تسكينا للجرح، وليس علاجا للمرض. فاللبنانيون في حاجة ماسة إلى وقفة صادقة مع النفس، وإلى الاعتراف بأن الصيغة الدستورية الراهنة تحتاج إلى مراجعة، لأنها لا تحل المشكلة الطائفية بل تقننها، ولا تعزز الوحدة الوطنية بل تضعفها. ففي بلد يبلغ عدد الطوائف المعترف بها رسميا 18 طائفة، هناك حاجة إلى البحث في كل ما يمكن أن يعزز الانصهار ويقوي الوحدة الوطنية، وهناك ضرورة إلى النقاش الصريح حول ما إذا كانت المحاصصة الطائفية بصيغتها الحالية نجحت فعلا في حماية البلد وفي صون وحدته، أم أنها كرست الطائفية فيه، وجعلته عرضة للاختراقات، وساحة لحروب الآخرين.

مشكلة لبنان لن تحل إلا عندما يتصرف اللبناني على أنه لبناني بغض النظر عما إذا كان مسلما أو مسيحيا، سنيا أو شيعيا، مارونيا أو أرثوذكسيا، درزيا أو علويا، أرمنيا أو أشوريا. وفي غياب ذلك لن يعرف البلد استقرارا حقيقيا، أو سلما دائما، وسيظل يذبح بأيدي أبنائه أو بأيادي الآخرين.

[email protected]