غليان في الكويت

TT

سافرت إلى الكويت في رحلة عمل قصيرة، وكنت قد علمت قبل سفري وبحكم متابعتي للشأن الدستوري في ذلك البلد – وذلك لعلاقات علمية قديمة لي مع الدستور الكويتي – أن المحكمة الدستورية في الكويت أصدرت بتاريخ 20 يونيو (حزيران) 2012 حكما في قضية رفعتها سيدة كانت مرشحة في الانتخابات النيابية بعدم دستورية المرسوم الأميري بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس الأمة. ذلك لأن هذا المرسوم صدر بناء على عرض وزارة لم يعد لها وجود قانوني بعد استقالة رئيسها وعدم تشكيل وزارة جديدة، مما يجعل هذا الإجراء باطلا بطلانا مطلقا يستوجب عدم الاعتداد به وعدم ترتيب آثاره.

وعلى هذا الأساس حكمت المحكمة بإبطال عملية الانتخاب برمتها التي أجريت بتاريخ الثاني من فبراير (شباط) 2012 في الدوائر الخمس وبعدم صحة عضوية من أعلن فوزهم فيها لبطلان حل مجلس الأمة السابق وبطلان دعوة الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس جديد. ورتبت المحكمة على الحكم عودة المجلس القديم. وأثار ذلك الحكم عاصفة سياسية عاتية.

وفي الفترة الأخيرة أصدر أمير الكويت بحكم اختصاصه الدستوري، مرسوما بقانون لتعديل قانون انتخابات مجلس الأمة وذلك بالعدول عن قاعدة أن يكون لكل ناخب أربعة أصوات يوزعها كيف يشاء والعودة إلى قاعدة «صوت واحد للناخب الواحد». ويبدو أن هذا التوجه لم يلق استجابة لدى كثير من قطاعات الشعب الكويتي.

ولم نكن نعرف في القاهرة بتداعيات ما حدث نتيجة صدور هذا المرسوم إلا أنني بمجرد أن ركبت الطائرة الكويتية وقرأت عناوين الصحف الكويتية أدركت مدى عمق العاصفة التي تهب على تلك الإمارة الغنية المترفة – الصغيرة – من إمارات الخليج.

ومعروف أن الكويت يتمتع بمستوى دخل للفرد يعتبر من أعلى معدلات مستوى الدخول في العالم. ومعروف أيضا أن المواطن الكويتي يعيش في حال من اليسر والراحة الاقتصادية تحسده عليها كثير من الشعوب العربية بل وكثير من شعوب العالم. ولذلك كان غريبا علىّ أن أقرأ ما قرأت في الصحافة الكويتية عن أنباء احتجاجات واعتصامات والتحضير لإضرابات. وفي مساء يوم الأحد – في اليوم الثاني لي في الكويت – كانت العاصمة الكويتية مدينة مختلفة تماما، وكانت الجماهير الغاضبة تتجمع في بعض مناطق العاصمة وكان البوليس يقطع الطرقات، واستغرق مني أكثر من أربع ساعات في السيارة لكي أصل من مكان كنت مدعوا فيه على العشاء إلى الفندق الذي كنت أنزل فيه. وهذه الساعات الأربع كافية في الأوضاع العادية لزيارة دولة الكويت كلها وزيارة بعض إمارات الخليج الأخرى المجاورة.

ولكن الغليان الذي ساد الكويت والمظاهرات والمصادمات التي حدثت أدت إلى هذا الاضطراب الشديد. وللأسف فقد حدثت اعتقالات وإصابات بين المواطنين وإصابات أخرى بين رجال الأمن، الأمر الذي ما كنا نرجوه لهذا البلد الآمن الذي يغبطه كل من حوله من الشعوب.

ونحاول هنا أن نبحث الأسباب القريبة والأسباب البعيدة لهذا الاضطراب العنيف الذي يسود تلك «الإمارة الدولة».

ونظرة إلى بعض عناوين الصحف قد توحي بما خلف الأكمة من أسباب. فقد جاءت العناوين في صحيفة من الصحف هكذا:

جرح الكويت.

أبناء أسرة آل الصباح: الولاء والسمع والطاعة لسمو الأمير.

وجاء في الصفحة الأولى لجريدة أخرى:

الكويت أمس.. ليست الكويت

مسيرة متشعبة انطلقت من مواقع عدة شارك فيها الآلاف وواجهتها الأجهزة الأمنية بالقنابل الصوتية والدخانية والمسيلة للدموع.

وجهاء القبائل: السمع والطاعة لسمو الأمير.

وجاء في صدر الصفحة الأولى من صحيفة ثالثة:

المسيرة الأكبر.. والمواجهة الأخطر.

وهذا كله تعبير عن مدى القلق والغليان الذي يعصف بهذا البلد العزيز. وهنا نحاول أن نتصدى لأسباب هذا القلق والغليان. فإن إصدار الأمير لمرسوم بقانون في غياب مجلس الأمة هو حق دستوري له في حالة الضرورة كما نص دستور الكويت. والكويت مدعوة لانتخاب مجلس الأمة الجديد في ديسمبر (كانون الأول) المقبل. والنظام الانتخابي الذي كان قائما أدى إلى كثير من الارتباك وأدى إلى حل المجلس أكثر من مرة، وهذا كله قد يعطي المبرر لإصدار المرسوم الأميري للقانون الذي عاد إلى قاعدة صوت واحد للمواطن وهي القاعدة المعمول بها في أغلب البلاد الديمقراطية.

هذا المرسوم بذاته لا يدعو إلى هذا الاضطراب والغليان. قد يؤيده البعض وقد يعارضه البعض ولكن الاختلاف في الرأي لا يؤدي إلى التظاهر والصدام.

وتقديري أن الأوضاع القبلية من ناحية وبروز «تيار الإخوان المسلمين» من ناحية أخرى هو السبب الأساسي فيما جرى في الكويت في الأيام الأخيرة. وهذا الذي جرى ويجرى في الكويت ما لم يحسم وبسرعة، فإن عواقبه في تقديري قد تكون وخيمة.

إن البعض قد يقول في شماتة بالنظام الديمقراطي في الكويت: هذه هي الديمقراطية التي تتشدقون بها وما أدت إليه من اضطراب ومن تعطيل للتنمية وللاستثمارات.

كذلك فإن احتمالات الردة الدستورية إذا تفاقمت الاضطرابات وتزايد التهديد الإخواني والتهديد القبلي لكيان الدولة أمر وارد نسأل الله أن لا يكون.

ويخطر في ذهني خاطر لا أريد أن أكتمه حتى وإن بدا ساذجا: يبدو أن أهل الكويت «يتبطرون» على النعمة والرخاء الذي يعيشون فيه. كما قيل فإن البطر يزيل النعم.

أسأل الله السلامة للكويت ولكل بلد عربي.