ذكريات مؤلمة.. ستبقى دماؤهم تلاحق الأسد إلى الأبد!

TT

لا ضرورة لكل محاولات إثبات أن من ارتكب جريمة اغتيال رئيس قسم المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبناني (اللواء) وسام الحسن، في تفجير ساحة ساسين في الأشرفية ببيروت الشرقية يوم الجمعة الماضي، هو النظام السوري؛ فهذه قضية لم تعد بحاجة لا إلى أدلة ولا إلى براهين، وهناك مثل عربي يقول: «لا يجب البحث عن أثر الذئب بينما الذئب نفسه يقف أمامك مكشرا عن أنيابه»، ثم إن هذا النظام قد حول الدولة السورية كلها إلى ما يشبه قلعة «ألْموت» - تلك التي أقامها حسن الصباح في مدينة «رودبار» بإيران لتكون وكرا لفرق الحشاشين الذين عاثوا في هذه المنطقة شرورا وفسادا والذين لم يترددوا في السعي لاغتيال صلاح الدين الأيوبي، في ذروة انهماكه في تحرير القدس وفلسطين ومقاومة الغزو الفرنجي «الصليبي»، لإلغائه الدولة الإسماعيلية «الفاطمية».

كل اللبنانيين، من كبار المسؤولين ومن كبار القيادات والرموز الوطنية، الذين تم اغتيالهم خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1976 وبعدها وحتى اغتيال وسام الحسن، هم من الذين رفضوا هيمنة نظام حافظ الأسد ونظام ولده بشار الأسد على لبنان وبمن فيهم بشير الجميل، وهذا يؤكد أن هذا النظام هو الذي ارتكب كل هذه الجرائم، وأنه غير صحيح أن إسرائيل هي التي ارتكبت الجريمة الأخيرة، وهذا مع التأكيد على أن الدولة الإسرائيلية قد ارتكبت الكثير من جرائم الاغتيالات ضد كبار المسؤولين الفلسطينيين، إن في حركتي فتح وحماس، وإن في منظمة التحرير الفلسطينية.

كان الزعيم اللبناني الكبير كمال جنبلاط، السياسي والمناضل الوطني والقائد الفذ والمفكر والشاعر، أول شهداء رفض الهيمنة السورية على لبنان، وأذْكر أنني كنت قد وصلت في الخامس عشر من مارس (آذار) عام 1977 من تونس إلى روما، بعد حضور ندوة ثقافية هناك، وأنني في اليوم التالي، ومعي أحد الأصدقاء، قد ذهبنا لتناول الغداء في أحد المطاعم القريبة، وهناك فوجئنا بـ«نادل» من المغرب العربي يقول لنا وهو يبكي بحرارة: هناك مصيبة كبيرة، لقد سمعت في «الراديو» الآن أن «جنبلاط» قد قتله حافظ الأسد.. يا خسارة!

كنت قد عرفته، رحمه الله، منذ بدايات السبعينات، وكان قد زارنا مرات عدة في اعتصام طلابي كان يشارك فيه مسؤول طلاب الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيس اتحاد طلبة لبنان أنور الفطايري، الذي استشهد لاحقا هو أيضا وبرصاص «قوات الردع العربية»!! وكنت أنا قد ذهبت إليه كصحافي في قلعته الشامخة «المختارة» مرات عدة لأتابع، باستمتاع، معالجته للشؤون السياسية وشؤون الناس، حيث كان يجلس وإلى جانبه مقعد شاغر يتناوب الحاضرون على الجلوس فوقه ليهمسوا إلى زعيمهم بحاجاتهم ومطالبهم وأيضا بآرائهم السياسية.

كان كمال جنبلاط ضد تمدد نظام حافظ الأسد إلى لبنان، وكان يرى أنه بالإمكان، على المدى القريب أو البعيد، التفاهم مع المسيحيين («الكتائب» و«الوطنيين الأحرار» وحلفائهم)، أما هذا النظام فإنه إن هو هيمن على هذا البلد فإن بقاءه سيستمر لعقود طويلة، وهذا هو ما حصل بالفعل، ولعل ما تجب الإشارة إليه هنا هو أن أقرب اثنين إليه كانا محسن إبراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، وجورج حاوي الأمين العام للحزب الشيوعي الذي قد لحق به في وجبة الاغتيالات التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في عام 2005.

بعد كمال جنبلاط، جاء دور سليم اللوزي، الذي تلقينا نبأ اغتياله في وقت متأخر من مساء أحد أيام فبراير (شباط) عام 1980 بينما كنا في آخر لحظات «تشطيب» عدد ذلك اليوم من صحيفة «السفير».. كانت الصور مرعبة، وكانت قصة الاغتيال والتعذيب أكثر رعبا ووحشية، وكان ذنب أشهر الصحافيين العرب في تلك الفترة أنه سخر مجلة «الحوادث» ضد نظام حافظ الأسد وضد التدخل السوري في لبنان، فكان أن تخلص منه هذا النظام بمشاركة فصيل فلسطيني لا يزال يعمل عنده كـ«بندقية للإيجار».

بعد ذلك، وكنت قد رحلت عن بيروت في السفينة التي أقلت (أبو عمار)، بحراسة بحرية دولية، إلى أثينا واستقررت في نيقوسيا بقبرص، وهناك سمعنا عن اغتيال المفتي حسن خالد واغتيال الشيخ صبحي الصالح.. وبالطبع، فإن الذنب هو مقاومة تجذر نظام حافظ الأسد في لبنان، ثم سمعنا لاحقا عن اغتيال رينيه معوض، و«الأفندي» رشيد كرامي - الذي لا يمكن الجزم بما إذا كان الذي فجر طائرته المروحية هو «الأمن المستعار» أم إحدى الجهات اللبنانية «المسيحية» - الذي كنت قد التقيته آخر مرة، وهذا كان في عام 1983 بمنزله في طرابلس بصحبة خليل الوزير (أبو جهاد) الذي استشهد لاحقا في تونس، وحيث وجدنا أن رئيس الوزراء اللبناني الأسبق ضد عودة المقاومة الفلسطينية مجددا إلى لبنان، وكان يظهر أيضا، وإن تلميحا، أنه ضد بقاء قوات الردع العربية (السورية).

أما بالنسبة لرفيق الحريري، فقد تعرفت عليه من خلال الفنان المبدع ناجي العلي الذي قضى شهيدا في لندن عام 1987، ومن خلال بسام أبو شريف، وآخرين من الذين زاملوه أيام الدراسة وأيام الكفاح والنضال في حركة القوميين العرب التي كان هو أحد أعضائها، وكنت قد التقيته وجها لوجه خلال دعوته وزراء الإعلام العرب، وكنت أحدهم، لحفل عشاء أقامه في «السرايا» مقر رئاسة الوزراء، وكان جلوسي على يسار نائبه، الذي كان يجلس على يساره، قد أثار امتعاض وزير الإعلام السوري في ذلك الوقت عدنان عمران، فكان مني أن همست إليه، أي إلى الحريري، بأن جلوسي على هذا النحو قد أزعج جاري من الجهة اليسرى.. أطلق ضحكة مجلجلة وقال بصوت مرتفع: يا الله! «معليش» ما هو صاحب بيت!!

لقد كنت عضوا في مجلس الأعيان في عام 2005، وفي نحو منتصف نهار ذلك اليوم ذهبت لأحضر من سيارتي المتوقفة في الخارج بعض الأوراق، فسمعت من مذياعها ذلك النبأ المفزع بأن رفيق الحريري قد تم تفجيره بعبوة ناسفة تقدر بمئات الكيلوغرامات، في منطقة فندق «فينيسيا» الشهير ببيروت.. وهكذا، وعندما عدت وأخبرت من كان هناك من زملائي بهذا الخبر المرعب، كان جوابي التلقائي ردا على سؤال مَنْ مِن الممكن أن يكون الفاعل؟ هو «حزب الله والمخابرات السورية».

وأنهي هنا وأنا أستعرض هذا الشريط الطويل، بعد جريمة اغتيال وسام الحسن يوم الجمعة الماضي، بأنني كنت قد حذرت سمير قصير من الاغتيال في يوم افتتاح فضائية «العربية» في دبي عام 2003، وكان بصحبته الزميلة المبدعة جيزيل خوري، وإنني كنت قد تلقيت نبأ اغتيال بشير الجميل في سبتمبر (أيلول) 1982 في باريس من قبل رئيس بلدية ضاحية «نانتير»، الذي كنت أحل ضيفا عليه، وأقيم مع عائلتي في منزل الضيافة التابع لهذه البلدية، وكان ردي السريع أن المقاومة الفلسطينية هي التي تقف وراء هذا الاغتيال.. لكنني عندما دققت في الأمور بعد ساعات قليلة، قلت له إنني قد تسرعت كثيرا، وكان تقديري خاطئا؛ إذ لا يمكن أن يكون وراء هذه الجريمة إلا الأجهزة الأمنية السورية، وذلك لأن هذا الرجل الوطني واللبناني الصلب، الذي لم يتحمل وجود الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية، لا يمكن أن يتحمل احتلال سوريا لهذا الوطن الصغير، وبخاصة بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية اللبنانية... في كل الأحوال، إن دماء وأرواح هؤلاء وغيرهم ستبقى تلاحق أصحاب هذا النظام القاتل إلى يوم القيامة.