ماذا يحدث في اليمن؟

TT

في 21 فبراير (شباط) الماضي كتبت هنا مقالة بعنوان: «هل يتجاوز اليمنيون محنتهم؟»، واليوم، وبعد مضي 9 أشهر، لا ضير من التوقف وإجراء «جردة حساب» تضع الجميع أمام مسؤولياتهم الوطنية.

القضية الأهم التي تؤرق اليمنيين هي ما يعرف بـ«القضية الجنوبية»، التي بلغت حدا تجاوز سقف المطالب الحقوقية المشروعة إلى نبرة تطالب بالانفصال، مرورا بمجاميع تنادي بفيدرالية مؤقتة من إقليمين؛ جنوبي وشمالي، وآخرين ينادون بفيدرالية أكثر من إقليمين.

لكل فريق مبرراته العاطفية والسياسية، لكن المؤسف هو أن هذه المجاميع تضم في صفوفها قيادات وعناصر كانت هي ركيزة حرب صيف 94 التي تسببت في إحداث هذا الشرخ النفسي المروع الذي بلغ حدا أقل ما يوصف به هو الجموح.

لن أذكر أسماء بعينها لأنها معروفة لكل متابعي الشأن اليمني، ولكني سأكتفي بالقول إنهم الأشخاص الذين أرادوا الانتقام من الحزب الاشتراكي اليمني صانع الوحدة الحقيقي وظنوا أنهم سيصبحون الشريك البديل.. وإذا كان الهدف الأول قد تحقق، فإن ظنهم قد خاب في بلوغ الهدف الثاني.

لقد كنت شاهدا وساعيا بصدق إلى أن يستعيد الحزب الاشتراكي دوره التاريخي ولو في صفوف المعارضة، لكن صانع القرار السياسي حينها وبدعم ومثابرة من اعتقدوا أنفسهم وريثا شرعيا للتمثيل الجنوبي في السلطة رفضوا كل تلك المحاولات وعمدوا على عرقلتها.

كان في صفوف هؤلاء من أمسك بالحقائب الوزارية وترأس البعثات الدبلوماسية اليمنية ومنهم قادة عسكرية، ولكن أغلب هؤلاء تذكر فجأة أن ظلما قد لحق بالجنوب وأن الشماليين (هكذا) هم قوة احتلال يجب مقاومتها والتخلص منها.. ركن هؤلاء إلى أن الذاكرة الضعيفة هي سمة العربي، وبالتالي، فلا بأس من اختلاق القصص وادعاء البطولات وتشكيل المنتديات.. ولعل من المناسب التذكير بأن عددا من هؤلاء قد طلب اللجوء إلى دول غربية بمجرد انتهاء مهامهم وبعد أن حصلوا على جنسيات تلك الدول عادوا إلى الداخل للصراخ دفاعا عن القضية الجنوبية متناسين أنهم كانوا أداة في يد الحاكم للتهوين منها، بل إن كثيرين أثروا ونهبوا أراضي في الشمال وفي الجنوب كي يسكتوا أصوات أشقائهم وإخوانهم الذين تعرضوا للظلم والإقصاء بعد حرب صيف 94 الكارثية.

تلك المقدمة كانت ضرورية كي أصل إلى ما كنت أقوله في صنعاء منذ صيف 94.

لقد تعرض الجنوبيون لظلم وتهميش، ولكن ذلك كان بعلم ومساعدة ومشاركة كل من كان في السلطة حينها.. لذلك، فإنه من المؤسف أن توجه السهام إلى كل شمالي ويتم التغاضي عن كل سوء لحق بهم على يد أهلهم الأقربين.

المسألة الثانية هي الادعاء أن كل ما في الشمال والشماليين هو سوء فاضح وكل ما هو في الجنوب والجنوبيين كمال لا حد له.. لست بحاجة إلى استدعاء الأحداث للبرهنة على زيف هذا النمط من الحديث السمج ولن أعلق عليه.

المسألة الثالثة هي أن الذين يرفضون الحديث عن أن الجنوب جزء أصيل من اليمن، إنما يعتسفون التاريخ والجغرافيا وصلات القربى، لكن المحزن هو ذلك النفور النفسي والمتزايد بفعل الشحن الإعلامي الجاهل من كل الأطراف، وكذلك حنق الكثيرين ممن فقدوا مصالحهم أو تقلصت مصالحهم.

لقد حدد الحوار الوطني المأمول أن القضية الجنوبية هي قمة أولوياته، لكن اللجنة التحضيرية عجزت حتى هذه اللحظة عن تحديد الطرف أو الأطراف التي لها حق الادعاء بأنها تمثل الجنوب، وهذا يثير قلقا بأن يصبح الحوار هو القشة التي ستقصم ظهر كل الجمال.. ذاك أن الإصرار على التمثيل الجغرافي عند تناول القضية الجنوبية هو مقدمة إدراك أنها خطوة أساسية نحو الانفصال، وإذا كان الأمر كذلك وإذا تمت الموافقة عليه، فإنني أقترح أن يكون العمل خلال ذلك على تحديد مواعيد زمنية لعودة الأمور على ما كانت عليه في 21 مايو (أيار) 1990.

القضية الثانية في جدول الأعمال المقترح هي ما صار يعرف بالقضية الحوثية.. فالحوثيون يريدون مناقشة قضية صعدة وقد ثبتوا أنفسهم ممثلا شرعيا ووحيدا للقضية الحوثية التي تحولت من قضية الدفاع (!) عن المذهب الزيدي إلى قضية سياسية بامتياز بأبعاد خارجية ومناطقية.. وهو الفعل نفسه لمن يدعون تمثيل الجنوب وما أكثرهم. في ظل هذه المناخات كان من المفيد تفكيك الأزمة - المحنة في اليمن والبدء بعملية ترميم نفسي كانت لجنة الإعداد للحوار الوطني محقة في تلخيصها بنقاط عشرين بوصفها مقدمة واجبة التنفيذ ولو جزئيا كي يقتنع المواطنون بجدية الأمر، لكن ما حدث هو أن هذه النقاط بذاتها تحولت إلى جدل بين من يرى أنها المقدمة الأهم، ومن رأى متأخرا أنها مجرد عوامل مهيئة.

إذا كان الأمر هو هذا بين من يعدون للحوار الوطني، فكيف لنا أن ننتظر من حوار سيضم أكثر من 500 شخص أن ينتشل اليمن من هوته السحيقة؟

خلال الأشهر التسعة الأخيرة، جاهد الرئيس عبد ربه منصور هادي على السير في حقول ألغام سياسية ومناطقية عدة، واستطاع تجاوز بعضها، لكنه ما زال يعاني من حالة عصيان غير معلن للعديد من الخطوات التي ينتظر منه اليمنيون أن يرسخ معالمها.

واقع الحال أن الرئيس هادي يدرك بحكم بقائه في قمة السلطة خلال عقدين من الزمن أن اليمن قد اتسعت الخروق في جسده وصار يحتاج إلى عمليات كي؛ إذ لم يعد بالإمكان التعامل بالمسكنات، وهي مسألة تحتاج إلى جرأة وتضحيات بعيدا عن الأهواء والمصالح الضيقة.

بقية القضايا المطروحة على جدول الأعمال المقترح للحوار ترتبط عضويا بهاتين القضيتين وما سينتج عن النقاش حولهما.

اليمن لم يعد لديه فسحة قبل أن ينزلق نحو تشرذم ودويلات صغيرة متناثرة.. ومن المحزن أن الأقربين قد أوكلوا أمره إلى المجتمع الدولي؛ إما لعدم الحيلة، وإما لأن كلا لديه ما ينشغل به، فاليمن في نهاية المطاف في نظرهم دولة فقيرة لا تستحق منهم العناء وإضاعة الوقت الثمين. ولا ينسى هؤلاء تذكيرنا بأن «الحكمة يمانية»!!!

* كاتب وسياسي يمني