قلب التعدد أيضا

TT

اشتهر عن سوريا قول الرئيس عبد الناصر، أنها «قلب العروبة النابض». لكن سوريا كانت أيضا موطن أكبر تجمع للإثنيات والأعراق والأقليات في الشرق الأوسط. وبسبب مناخ الحرية بدا أن مركز هذا التعدد هو في لبنان، لكن الحقيقة أن طيفه أوسع وأكبر في سوريا.

وإذ يبدو أن العروبة تصدعت في نبضها، كذلك يبدو أن الطيف السوري القديم يتنافر هو أيضا وقد لا يلتئم من جديد. لقد كانت دمشق، وربما أكثر منها حلب، موطن الفازعين من المشارق. وبعكس الحروب والتوترات والنزاعات الطائفية في لبنان، عاش الطيف السوري هادئا طوال القرن العشرين. وشارك أهل الأقليات في الحكم أو برزوا في المعارضة، كمثل فارس الخوري في رئاسة الحكومة أو خالد بكداش الكردي في زعامة الحزب الشيوعي. ويعدد الكاتب صقر أبو فخر (السفير) ألوان الطيف الدمشقي بالأكراد والشركس والتركمان والأروام والأرناؤوط والأبخاز والهوارة والداغستان واليهود والأرمن والعجم والمغاربة.

وقبل أن تكون سوريا «قلب العروبة النابض» كانت قلب آسيا الجغرافي ومنطلق قوافل الحج. وكان الرحالة إلى الجزيرة العربية يبدأون منها استطلاعاتهم أو أسفارهم أيضا إلى البتراء، المدينة الأردنية العجيبة التي اكتشفها السويسري يوركهارت، الذي طفق في الأرض ومات عن 32 بمرض الإسهال.

بعد الاستقلال قام في سوريا نظام برلماني يتسع للجميع، وإن كانت بعض العائلات السياسية البارزة قد سيطرت على الجزء الأكبر من السلطة. وأظهر رؤساء وسياسيون كثيرون حدا أكبر من النزاهة والعدل والروح الوطنية. وكانت الدولة تسير على خط تنموي نحو بناء مجتمع الكفاية والتقدم، لولا أن باغتها الانقلاب العسكري باكرا مع العقيد حسني الزعيم، الذي أرادها بلدا حديثا يجيد أهله رقص «التانغو» في الحفلات الساهرة التي كان يتقدمها بجسمه الشديد الاعتلاء.

منذ ذلك التاريخ انتقلت سوريا من البرلمانات إلى الثكنات. ومن رؤساء يخافون الله إلى ضباط يخافون بعضهم البعض. وكرت الدبابات في المدن، تدير وجهها إلى الناس وظهرها إلى فلسطين، التي ترفع علمها. وها هي الدبابات والثكنات مفتوحة اليوم على مدن سوريا وأريافها وطيفها وتاريخها. كانت ساعة شؤم تلك الساعة، عام 1949.