ميلاد المسيح العظيم.. ومنهجه في نقد استغلال الدين

TT

كان يوما جميلا وبهيا وسعيدا ومباركا، ذلك الذي ولد فيه السيد المسيح عيسى ابن مريم (صلى الله عليه وسلم)، يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) قبل ألفي عام. وتحديد هذا اليوم على ذلك النحو هو إحدى الروايات الراجحة في التأريخ لميلاده المبارك.. ونقول «الراجحة» لأن ثمة اختلافات في تعيين اليوم بين المذاهب المسيحية المختلفة.. وهي اختلافات لا تنتقص قط من جلال مولده، سواء كان في 25 ديسمبر أو في غيره من الأيام.

ولقد ابتعث هذا النبي الطيب برسالة قوامها: الرحمة.. والعدل.. والسلام.. والإيمان الحق بالله الحق (تباركت أسماؤه).

والدراسة المتعمقة لرسالته البهية تكشف «مضمونا» منيرا، ومفهوما إنسانيا كبيرا يمكن تلخيصه في «وضوح كفاحه في رفض استغلال الدين» ورفض الشكل الديني الكذوب (ظاهره جميل وباطنه عظام نخره) كما قال هو نفسه عليه الصلاة والسلام.

وفي ذكرى مولده الشريف المضيء البهيج: لنجلس إلى سيدنا المسيح، ولنصغ إليه وهو يرفع صوته عاليا، ويدمدم على «الشكلية الدينية» التي تخفي وراءها أطنانا من الآثام والأمراض، ويدمدم – كذلك – على «استغلال الدين».

أ) يقول: «روح الرب مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي المأسورين بالانطلاق، وللعمي بالبصر، ولأرسل المنسحقين في الحرية».

ب) ويقول: «على كرسي جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ما لا يفعلون».

ج) ويقول: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون لأنكم تشبهون قبورا مبيضة، تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات.. وهكذا أنتم أيضا تظهرون للناس أبرارا ولكنكم من داخلكم مشحونون رياء وإثما».

د) ويقول: «يا مرائي. أفإن سقط حمار في بئر يوم السبت أنقذته وأبرأته، وحين يمرض إنسان تتركه في علته إلى يوم الأحد».

هـ) «يا أولاد الأفاعي.. لا تقولوا لنا إبراهيم أبا لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم.. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة، فكل ثمرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار».

فهل استقام المخاطبون على منهج المسيح؟ لا.. ولسنا نعني «الكافرين» الذين كفروا به، وإنما نقصد «المؤمنين» به، أولئك الذي جعلوا الدين مجرد شكل كذوب، والذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا.

قبل ميلاد المسيح بستة وأربعين عاما، كان للاحتكار الروماني – في الأندلس وحدها – ثلاثمائة مصرف تختطف من إسبانيا ذهبها وقصديرها ونحاسها وفضتها وحديدها.

فهل تغير حال الدولة الرومانية بعد أن اعتنقت المسيحية أو اعتنقها إمبراطورها في مطلع القرن الرابع الميلادي؟

لا.. لم يتغير حالها، ولا تهذبت غرائزها في النهش والقضم، والالتهام، والبلع، بل جعلت من المسيحية «النقية الطاهرة» مطية وستارا لأطماعها السابقة.. وما جرى لأقباط مصر مثلا من النهب والإثقال بالضرائب، يكفي – وحده – برهانا على الاستغلال السياسي للدين.

ونعبر القرون لنلتقي ما عرف في التاريخ بـ«الحروب الصليبية».. والسؤال التاريخي السياسي والجوهري – ها هنا – هو: هل كانت تلك الحروب من أجل نصرة منهج المسيح وقيمه في العدل والرحمة والحق والسلام؟

لندع شخصيتين غير مسلمتين تجيبان عن ذلك السؤال:

1) يفسر جواهر لال نهرو – في كتابه «لمحات من تاريخ العالم» – الحروب «الصليبية» تفسيرا موضوعيا يتبدى فيه الاستغلال السياسي للدين.. يقول نهرو: «إن من أسباب الحروب الصليبية هو أن روما أرادت إخضاع القسطنطينية لأن كنيستها كان أرثوذكسية ومستقلة عن كنيسة روما، ولا تعترف بالبابا، بل تقلل من شأنه. ولا ننسى أن من تلك الأسباب: السبب الاقتصادي، فقد كان أصحاب التجارة والمصالح في البندقية وجنوا يقاسون من كساد تجارتهم، ولم يكن الرجل العادي يعرف هذه الأسباب الحقيقية الخفية، ولم يكن يعلم أن الزعماء - كزعماء الحروب الصليبية – إنما يلجأون إلى الخطب الرنانة والتظاهر بالحرص على الدين لإخفاء أهدافهم الحقيقية. لقد خدعت الشعوب يومئذ، ولا تزال تخدع حتى اليوم بالشعار الديني».

2) الشخصية الثانية هي إرنست باركر المؤرخ المختص بمثل هذه الوقائع، توثيقا وتفسيرا.. يقول باركر: «ينبغي التسليم بأن هناك أغراضا دنيوية اجتذبت إلى الحروب الصليبية جموع الدهماء. فما حدث في مواطنهم من المجاعات والأوبئة دفع الناس إلى الهجرة إلى الشرق.. ومن الأصوب أن نقول: إن رجال الدين أطلقوا اسم الحروب الصليبية لتبرير المصالح والمطامع الذي حدث أن اتفقت مع ما اختاروه من وسائل، رغم أن هذه الحروب قد انطلقت لتحقيق أغراض مخالفة لأغراض الكنيسة، مثال ذلك ما كان من طموح الأمير المغامر والابن الأصغر لـ(جويسكارد) الحريص على أن يقيم لنفسه إمارة في الشرق».

ثم نعبر القرون لنلتقي بموجات الاستعمار الغربي التي اجتاحت العالم كله تقريبا: باستثناء مناطق «الرجل الأبيض»!!

نعم.. ارتبط الاستعمار بحركات التبشير. وقد تكون هذه الحركات استفادت من إمكاناته ونفوذه، بيد أن الاستعمار كان هو المستفيد الأكبر عبر مقولتين كاذبتين انتهازيتين:

أ) مقولة: إنه كان يؤدي رسالة إنسانية في تحضير الشعوب المستعمرة وتمدينها.. على حين أنه ما جاء إلا لنهب المواد الخام، ثم جعل المستعمرات أسواقا لبضائعه.

ب) مقولة نصرة «الأقليات المسيحية» في البلاد التي استعمرها، على حين أن ما جرى كان عكس ما زعم، بمعنى أن تدخله في هذه المسائل تسبب في إيذاء الأقليات المسيحية في صور شتى.. وهناك مسيحيون عقلاء – ولا سيما مسيحيو المشرق – يعترفون بهذا الأذى الذي سببه الاستعمار الغربي لهم.

ثم نعبر القرون إلى الحقب الأخيرة.. ففي إبان الحرب الباردة استغل الغرب الإسلام في صد المد الشيوعي الكاسح الذي عجز هو عن صده عقائديا.. ومن الأدلة على أنه مجرد استغلال وتوظيف، أنه بعد سقوط الشيوعية – بسقوط الاتحاد السوفياتي - نادى مفكرون وساسة غربيون بأن «الإسلام هو العدو البديل للشيوعية».

جزانا بنو الأصفر بحسن فعالنا

جزاء سنمار وما كان ذانب

وقد تجلت صورة استغلال الإسلام أكثر ما تجلت – في هذا المقام – في الاستعانة بـ«الجهاد الإسلامي» لإنزال الهزيمة بالاتحاد السوفياتي حين احتل أفغانستان.

وها هم اليوم يرمون شباكهم، وينصبون فخاخهم بهدف «استغلال الإسلام السياسي» من خلال توجيه دفة الربيع العربي.. وأبرز صور الاستغلال «تطويع» الإسلام ليصبح طلاء دينيا للنموذج الغربي: في السياسة والاجتماع والثقافة والفكر والفن... إلخ.

ومن الدلائل المنهجية للتعرف على «الاستغلال السياسي للدين»: أن المستغل لا يلتزم بقيم الدين، ولكن يعمد – فحسب – إلى تسخيرها من أجل مصالحه أو أهوائه.

منذ عام تقريبا وجه الفاتيكان رسالة واضحة وحادة إلى الأوروبيين.. وفحوى الرسالة هو: ارتفاع معدلات ظاهرة الإلحاد في أوروبا، وأن سبب تعاظم الإلحاد ليس تاريخيا.. أي ليس الصراع الذي جرى في أوروبا وأدى إلى فصل الدين عن الدولة.. وإنما السبب الآن هو أن أوروبا تحولت إلى «داعية إلحاد»، وأن هذه آيديولوجية مدمرة للقارة ولحياة الإنسان الفرد فيها.

ورؤية الفاتيكان صحيحة موضوعيا.. فمنذ ثلاثة أعوام صدر عن الاتحاد الأوروبي وثيقة تقول: إن القول بـ«خلق الكون» – وفق المعتقد الديني – يهدد النهضة العلمية ويتناقض مع أسسها.. والترجمة الفكرية لهذه الوثيقة المتهافتة، أن منطق «خلق الكون» باطل، وبالتالي فليس للكون الخالق. فالله – من ثم – غير موجود!!

ونفي وجود الله – جل ثناؤه – هو جوهر الإلحاد.. ورغم أن حقائق العلم قد أسقطت – بيقين – أسطورة أن العالم وجد بالمصادفة، فإن الأوروبيين – ممثلين في اتحادهم – مصرون على اجترار مقولة المصادفة هذه.

والشاهد – هنا – أن هؤلاء الذين تحولوا إلى «دعاة إلحاد» – كما يقول الفاتيكان – هم أنفسهم الذين يستغلون الدين سياسيا لتحقيق مصالحهم وأطماعهم.

فهل يتكرر استغلال الدين في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي؟ هذا أمر غير مستبعد.. وعدم وقوعه مشروط بـ:

أ) الفهم الحق للإسلام: عقائده ومقاصده وقيمه.

ب) الوعي الشعبي العام الذي يرفع درجة الحذر من «الشكلية الدينية الخادعة».. ومن استغلال الإسلام في الترويج للأحزاب، والدعاية الانتخابية، والقفز إلى الحكم.

ج) الجرأة الكافية – والمستمرة – في نقد أي ظاهرة تدين تفوح منها رائحة استغلال الدين والمتاجرة به.

فالاستغلال ينشأ ويطول عمره بغيبة النقد، ويخنس ويقصر عمره بالنقد الجريء القوي المستمر الذي لا يخاف في الله لومة لائم.