الوزير وتذكرة القطار

TT

تعرض وزير مالية بريطانيا جورج أوزبورن يوم الجمعة الماضي لحادثة محرجة فيها دروس سياسية تستحق الفحص. كان الوزير في دائرته الانتخابية في اللقاء الأسبوعي مع أبنائها ««surgery، والاسم يعني عيادة الطبيب الذي يحاول تشخيص أسباب شكوى المريض، وكذلك يفحص النائب البرلماني مشكلات مواطني دائرته كطبيب يبحث عن علاج لها.

بعدها استقل الوزير أوزبورن ومستشارته السياسية القطار من محطة تشستر قرب مدينة تاتون التي يمثلها في البرلمان.

تصادف وجود صحافية من تلفزيون «آي تي إن» في عربة الدرجة الأولى لمحت وزير المالية ومستشارته الصحافية (الصحافيون يعرفون مستشاري الوزراء ويتبادلون المعلومات والأخبار معهم).

أدارت زميلتنا الإريال البيولوجي اللاقط في الآذان الصحافية بحثا عن معلومات من حوار الوزير ومستشارته تأهبا لمباغتته بسؤال قبل أن يجهز الإجابة مقدما، أو ربما للاحتفاظ ببضع ملاحظات في حقيبة يدها والاستفسار في ما بعد من المستشارة.

وصل مفتش تذاكر القطار، ولم تصدق الصحافية حظها السعيد عندما التقطت أسماعها أوامر من المفتش بحزم بارد للوزير ومستشارته: «تفضلا بمغادرة مقعديكما واجلسا في عربة الدرجة الثانية، فليس معكما تذاكر درجة أولى».

مفتش القطار يأمر ثاني أهم وأقوى رجل في البلاد بعد رئيس الوزراء بترك مقعده في الدرجة الأولى والجلوس مع «الغلابة» في الدرجة الثانية.

خلفية الحكاية أن الصحافة اليسارية والمعارضة العمالية اكتشفت كعب أخيل زعماء المحافظين؛ ومنهم أوزبورن، فهو مثل معظم زعماء الحزب يتحدر من أسرة ثرية تلقى تعليمه في المدارس الخاصة ذات المصاريف التي لا يقدر عليها إلا أقلية من أبناء الطبقات المتوسطة العليا والأرستقراطيين.

المعارضة تتهمه بافتقار خبرة واقع حياة أغلبية الشعب كالسفر بالدرجة الثانية. زعماء المحافظين كرئيس الحكومة ديفيد كاميرون ينتمون إلى الطبقة الارستقراطية وأعلى الطبقة الوسطى وهي نقطة ضعف سياسية بالغة الحساسية لوزراء حكومة حزب المحافظين تدفعهم إلى بذل أقصى الجهد لممارسة الحياة اليومية كعامة الشعب.

مثلا استقل رئيس الوزراء وزوجته مترو الأنفاق بعد مشاهدة ألعاب الأولمبياد خشية انتقاد الصحافة ومساءلة البرلمان لو استقل السيارة الحكومية في مناسبة غير رسمية، وتعرض للحرج لأن حارس الأمن في محطة القطار لم يتعرف عليه؛ إذ لم يكن في جيبه ما يثبت شخصيته أو منصبه (لا يوجد في بريطانيا نظام بطاقة الهوية الشخصية برقم قومي كحال مصر والبلدان الأفريقية والعربية).

كاميرون وستة من وزرائه يستخدمون الـ«بسكليت» في التنقلات بعد أن تحول الانتماء الطبقي والخلفية الاجتماعية لأسرهم إلى عقدة سنسميها «سياسكولوجية» أو «سيانفسية»، وأصبح التفوق الاجتماعي عبئا ثقيلا يجر الوزير إلى الغرق وسط أمواج سياسية تتلاطم في بحر الطبقية. فالوعي بالفروق الطبقية مكون أساسي في الثقافة الاجتماعية البريطانية، بشكل لا مثيل له في بقية الديمقراطيات الغربية. وعلى العكس، فإن نشطاء النقابات العمالية وساسة حزب العمال (رغم أن كثيرا منهم من أبناء الشرائح العليا من الطبقات الوسطى، وإن تظاهروا بأنهم من الطبقة العاملة) لا يعانون من هذه العقدة، ويسافرون بالدرجة الأولى ويستقلون أفخر السيارات. السبب أن الـperception أو الصورة الانطباعية في أذهان الناس أهم من حقائق الواقع.

فالانطباع في أذهان الرأي العام أن المحافظين هو حزب الأغنياء وملاك الأراضي الذين لم يختبر أكثرهم حياة الفقراء اليومية، ولذا، أحيانا ما يغالي زعماء المحافظين في تعريض أنفسهم لمشقات غير ضرورية لنفي صورتهم السلبية في الأذهان.

عمدة لندن المحافظ بوريس جونسون (وكان زميل دراسة كاميرون وأوزبورن في مدرسة ايتون الباهظة المصاريف) سافر إلى أولمبياد بكين بالدرجة السياحية على الخطوط الجوية البريطانية رغم ضخامة جسمه، بينما جلس الصحافيون في درجة رجال الأعمال.

حوار مفتش التذاكر والمستشارة السياسية لوزير المالية في القطار تحول إلى خبر المساء في بريطانيا بعد أن نقلته الصحافية كوصف تفصيلي ساخر لمباراة لفظية بين الوزير ومفتش القطار على «تويتر»، بمعدل 140 حرفا لكل رسالة، في غياب مصدر آخر شهد الحوار.

رواية مستشارة الوزير أنها عرضت على المفتش دفع الفارق، حسب عروض السكة الحديد التي تسمح لراكب الدرجة الثانية في عطلات نهاية الأسبوع بالجلوس في عربات الدرجة الأولى التي تكون عادة فارغة لعدم سفر رجال الأعمال في العطلة مقابل رسم يتراوح بين عشرة جنيهات و 17 جنيها (حوالي 15 - 25 دولارا) حسب طول المسافة.

المفتش رفض قائلا إن عطلة نهاية الأسبوع تبدأ بعد منتصف ليل الجمعة والوقت لا يزال الرابعة بعد الظهر، وهنا تدخل الوزير ودفع 185 جنيها (320 دولارا) فارق ثمن التذاكر وانتهى الأمر.

الرواية حسب مسلسل رسائل «توتير» الصحافية أسالت لعاب الصحافيين، خاصة احتجاج المستشارة: «لا يمكن وضع وزير المالية في الدرجة الثانية ليرى الناس أوراقه»، بينما رفض مفتش السكة الحديد طلبها.

وطوال رحلة ساعتين ونصف، هبت الزوبعة على شبكات «تويتر» و«فيس بوك» وبقية شبكات التواصل الاجتماعي التي يبحر فيها الصحافيون طوال 24 ساعة ليس لأغراض اجتماعية أو شخصية، بل جزءا من متابعة الأخبار أو نشرها مثل المدونات، وذلك بأوامر مشددة من مديري التحرير التنفيذيين.

كل التعليقات، تقريبا، جاءت إما ساخرة أو منتقدة، تتهم الوزير بالتعالي على الشعب واحتقاره ورفض مشاركة الناس العاديين في الدرجة الثانية، وتثني على المفتش الذي لم يرهبه المنصب الوزاري.

النتيجة أنه في نهاية الرحلة وجد الوزير ومستشارته نفسيهما وسط كمين نصبه حشد من الصحافيين وكاميرات التلفزيون والمصورين في محطة يوستن في لندن.

حاول الوزير رفع ابتسامته الهادئة درعا يحميه من وابل الأسئلة.. لوح بإيصال فارق الثمن أمام الكاميرات وتوسل للصحافيين أن لا يجعلوا من حبة الرمل تلا، وأن يركزوا على محاولاته لإنقاذ الاقتصاد والتعامل مع أزمة اليورو، ومقاومة بيروقراطية بروكسل التي تحاول زيادة الضرائب على البريطانيين. لكن الصحافيين ركزوا على التأكد من أن فارق الثمن من جيب الوزير وليس من خزانة الوزارة.

وربما يتساءل القارئ عما أثار صحافية تسافر درجة أولى أصلا؟

السبب أن مصاريف سفرها تدفعها مؤسستها أو تدفعها من جيبها بينما يتحمل دافع الضرائب ثمن تذكرة عضو البرلمان أو الوزير، خاصة أن مرتب وزير المالية، وحتى رئيس الوزراء نفسه، أقل كثيرا من مرتب رئيس قسم في صحيفة كبيرة أو معد برامج في التلفزيون.

الصحافة بصفتها سلطة رابعة تمثل ضمير الشعب، فتراقب بعين الصقر كيف ينفق الساسة والوزراء أموال دافع الضرائب، ولذا يبذل الوزير كل ما في وسعه لتخفيض هذه المصاريف بقدر الإمكان وشراء أرخص التذاكر، ولو كانت هناك درجة ثالثة لسافر بالدرجة الثالثة.