صدق النيات لا يداوي جرحا ولا يؤمن مستقبلا

TT

زار مؤخرا كوكبة من أشهر الأكاديميين الإعلاميين العرب العراقيين إقليم كردستان ليلتقوا رؤساء الأحزاب الكردية الفاعلة في كردستان، وكذلك قيادة الإقليم رئاسة وبرلمانا، وقد التقوا مع نظرائهم من الأكاديميين والإعلاميين والسياسيين والبرلمانيين الكرد وكنت أحدهم. وكان الغرض من شد رحالهم إلى كردستان هو كسر الجمود في العلاقات بين بغداد وأربيل كما قالوا، أو لسد الشرخ الحاصل فيها، أو لتضييقه في الأقل، وهي مهمة شريفة لا جدال حولها، شريطة الالتزام بالحقيقة الموضوعية في البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ما أدت إليه من استخفاف بالدستور وقيمه.

وفي كلمة لي مع الوفد بينت لهم أننا نحن الكرد لا نعتبر أنفسنا غرباء عن الآداب العربية، فما تكونت الأسس العلمية لهذه الآداب إلا بفضل عصارات أفكار علماء الكرد والفرس والأتراك، ولعلماء الكرد نصيب الأسد فيها. ثم أردت أن يكون مفهوما لدى الإخوة الضيوف الأعزاء أن الكرد تجاوزوا تبويس اللحى والوعود الرنانة وصيغ الإطراء والمدح حول أن الأكراد طيبون.

وفي بدايات عام 2004 جاء إلى أربيل وفد من أكابر علماء التاريخ وأساتذة الفكر الإسلامي في بغداد، منهم المفكر المشهور الدكتور عماد الدين خليل، والأستاذ العلامة الدكتور عماد الدين عبد السلام. وقد تبين لي أن رسالتهم التي أتوا بها هي دعوة الكرد إلى الاندماج من جديد مع العراق بحجة أن الشر المستطير الذي تسبب في ابتعاد الكرد والتمسك بالاستقلال قد زال وانتهى. والحق أنني ما كنت أشك في نياتهم الصادقة، ولكني كنت أعلم بحكم التجربة والدراسات العلمية الواقعية أن هؤلاء بمواقعهم العلمية لن يكون لهم قلم ولا رسم في الخارطة الجديدة للعراق الجديد، ولا مثل هذا الخطاب الجميل يبني سياسة في بلد لم يؤسس على تقوى من الله تعالى ولا على وضوء، وكلنا نعرف قصة العراق الحديث والمعاصر والتاريخ أيضا.

وأكدت لهم أن التاريخ يقول لنا إن صدام حسين لم يكن أول بلاء ابتلي به الشعب الكردي، فقد سبقه كثيرون ممن حكموا العراق أو تسنى لهم موقع قيادي تمكنوا من خلاله من تعذيب الكرد وحرمانهم من أبسط حقوقهم، ففي عام 1963 – مثلا - قتل ضابط معروف 17 من أكفأ مراتب لوائه قبل خوضه في معركة مع البيشمركة قرب قصبة كويسنجق دون سبب سوى أنهم كرد قد لا يتحمسون في قتل إخوتهم شجعان الجبال البيشمركة. كان صدام حسين آخر بلاء لا أول بلاء من سلسلة طويلة من الحكام الذين لم يحترموا لا عهود عهود المجتمع أو القانون الدولي في مجالات حقوق الإنسان وحرياته.

نحن الكرد نفهم ونتفهم نيات مثل هذه النخبة من المثقفين والأكاديميين، ولكن هل يمكن أن يفهم الناس الذين ذاقوا فظاعات ارتكبت ضدهم في حلبجة والأنفال والقرى الآمنة، التي زرعوا هم الرعب فيها ثم دمروها، هذه النيات التي لا تداوي جرحا ولا تؤمن مستقبلا؟

وعندما يتجاوز أي أمر حده يتغير قانونه، عندما يصبح حق الحياة في خطر حل له المحرم شرعا وقانونا، وبموجب مبدأ احترام سيادة الدول، وهو مبدأ آمر مقر في ميثاق الأمم المتحدة، لا يجوز لأية دولة التدخل في شؤون دولة أخرى، وإن كانت تلك الدولة تنهج الاستبداد وتعذب مواطنيها، ولكن عندما تكررت فظاعات بعض الدول ضد شعوبها بشكل يؤذي الضمير العالمي كما جرى في البوسنة وكوسوفو وكردستان العراق، تنبه المجتمع الدولي إلى هذا المبدأ وأيده أساتذة القانون الدولي. ذلك أنه قانون طبيعي يعلو أي قانون آخر، فأصبح مبدأ التدخل، حيث يتجاوز انتهاك حقوق الإنسان كل المدى والفظاعات، شرعيا وقانونيا.

وهكذا، ما جرى من فظاعات الإبادة الجماعية ومحاولات التطهير العرقي لشعب كردستان أفظع من كل مثال سابق. ندعوه سبحانه أن لا يبتلى شعب آخر بمثل ما ابتلي به الشعب الكردي في تاريخه البعيد والقريب.

صحيح أن الدستور العراقي الجديد أرسى نظاما ديمقراطيا فيدراليا تعدديا كان من شأنه، لو جرى تطبيقه بأمانة، ولو تخلى الحالمون بثقافة القائد البطل عن مشاريعهم التوسعية، أن يجعل العراق الجديد ملتقى للباحثين عن الحرية، ومركزا حضاريا للسلام والحرية والديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، كل يسعى للتقدم دون حائل، والكل يحصل على نصيبه في السلطة والثروة دون انتقاص من الآخر.

في مثل هذا الجو الذي سعى الكرد لتحقيقه وقدم أغلى التضحيات في سبيله، ما كان يطول النزاع على شيء بمثل ما طال، وقصة كركوك ماثلة في الأذهان وفي الضمائر. ولا كان يقبل أو يعقل أن يجرؤ أحد فينصب نفسه حاكما بأمره أو يستعيد سيرة من سبقه من المستبدين. ومع ذلك حصل هذا كله وما زال يحصل في الواقع، دون أن يجد من يقول لماذا العراق الجديد؟ ثم أين حقي؟

في هذا الواقع العجيب الذي ما توقعه أحد، تمشي الأمور نحو القطيعة الكلية مع الدستور الذي تجمع مبانيه ومقاصده على إرساء دولة للمواطن لا دولة للقائد البطل، دولة مدنية لا دولة عسكرية، دولة مدنية بمعنى الحداثة لا دولة دينية تستعير بعض هوامش الديمقراطية للتضليل فحسب. ومن هنا كان لا بد من صرخة قوية في كردستان تعبر عن رفض هذا الواقع دون تردد، وتدعو بغداد إلى الالتزام بالدستور والمواثيق وقبول الآخرين دون تمييز، إذ من دون ذلك ينخرط العقد لا محالة، وللكل الحق آنذاك أن يختار ما يحقق حرية ذاته وشعبه.

ويبدو أن سخونة الموقف الجاد، والانعطاف الحاد في سياسة بغداد نحو الأثرة والقبض على مراكز القوة من أجل تغيير المعادلات القائمة، وإمساك شخص أو جهة ما بالسلطة دون أن يكون لآخرين الحق المماثل، كل هذه الظواهر المقلقة، دعت هؤلاء الأفاضل إلى استقراء الموقف الكردي عن قرب في ما يجري من تحول خطير في حكم بغداد، فأتوا إلى أربيل لأمر ما تحت عنوان التقارب أو كسر الجمود.

ومع تقدير الأكاديميين الكرد لهذه المبادرة ذات الدلالات الإيجابية على تفعيل العقل العراقي المستنير باتجاه دولة الإنسان المواطن دون البحث عن ملحقات لا شأن لها في بناء الأوطان الحديثة، أو لم يعد لها شأن منذ قرون، ومع قناعة المثقفين الكرد بأن الإشكالية المتأزمة التي بدأت تهدد تلاحم العراقيين لا صلة لها بإقليم كردستان عموما ولا بالسيد مسعود بارزاني رئيس الإقليم، ولا صلة لها بالدستور الذي كل عيبه أنه قطع كل حجة لمن أراد أن يستبد، أو يعيد إنتاج حماقات النظام الديكتاتوري الزائل. فنظامه ديمقراطي تعددي، ليست له حكومة مركزية تبسط سلطانها على حريات الناس وثرواتهم، وسلطاتها محدودة بصلاحيات أساسية لإدارة الدولة الواحدة، ثرواتها الهائلة (النفط والغاز) ملك لكل الشعب في كل الأقاليم والمحافظات، ليس للحكومة الاتحادية أن تتصرف فيهما دون مشاركة الأقاليم والمحافظات المنتجة، الجيش فيها متوازن، ولا يوظف في المنازعات السياسية، يسمى قادته من قبل مجلس النواب، لا من قبل القائد العام للقوات المسلحة.

ومن الظاهر البين الذي لا يحتاج لا إلى دليل ولا إلى تنبيه أن كل هذه المبادئ الدستورية وغيرها ضرب بها عرض الحائط ضربة قاضية، فتشظت شذر مذر، فمن فعلها؟ ولحساب من فعلوها؟ هل فعلها مسعود بارزاني الذي حسبه نافذ من حكومة بغداد أساس إشكال العراق؟

* رئيس منتدى الفكر الإسلامي في كردستان

وبرلماني سابق