هجرة عكسية!

TT

يعرف الأميركان قبل غيرهم أن أحد أسباب نجاح وتميز مجتمعهم هو قدرته على جذب أهم المواهب وأهم الكفاءات من حول العالم، وضمهم لخطوط الإبداع والإنتاج ليكونوا قيمة معطاء ومضافة. كانت دوما التسهيلات في الهجرة أحد أهم عناصر التفوق في الاقتصاد الأميركي. أميركا تاريخيا كان لديها إحدى أهم المزايا والأصول التي تؤخذ في عين الاعتبار، وهي رغبة الناس من حول العالم في العيش بها بشكل كبير.

أميركا كانت مغناطيس ونقطة جذب للطلبة الصينيين والأطباء الهنود والممثلين البريطانيين والمصرفيين الفرنسيين وغيرهم من الكفاءات المختلفة حول العالم. الجامعات الأميركية متوهجة بالمئات من العقول الأجنبية، وأذكى شركاتها الجديدة مليئة بالكفاءات المهاجرة، وكثير من هؤلاء يقررون البقاء بصورة دائمة في أميركا، ويطلبون بالتالي الهجرة بشكل نظامي. أي دولة في العالم تستطيع التقدم والتميز والتطور طالما كانت لديها القدرة والرغبة في جذب الكفاءات والمواهب المميزة من حول العالم، ولكن هذا الحلم يلغى تماما إذا حصل لها مثل ما أقدمت على عمله حكومة الولايات المتحدة منذ تاريخ 11 سبتمبر (أيلول) 2001، الذي جعل سياسة الهجرة القانونية الرسمية مسلكا طويلا ومعقدا وروتينيا يهدف بشكل أساسي إلى «تعطيل» أرقام الهجرة، والحد منها.

المقيمون وطالبو الهجرة بدأوا يدركون أن هناك توجها جديدا، وهذا التوجه بات مادة دسمة جدا في الانتخابات الرئاسية الحالية، والغريب أن هناك قناعة بأن المستهدف من هذه السياسات المنشودة هم مواطنو الدول اللاتينية في أميركا الوسطى وأميركا اللاتينية، وتحديدا من المكسيك، ولكن هذه السياسة باتت تستهدف مواطني دولتي الصين والهند بشكل واضح، وهناك أكثر من بحث استقصائي أجري على شريحة عريضة من الطلبة الصينيين والهنود الموجودين في الجامعات الأميركية، وأوضحوا أنهم يعانون مر المعاناة من الإجراءات المعقدة الخاصة بتحويل وضعهم القانوني من طلبة إلى طالبي عمل، ثم إلى طالبي هجرة، ولعل أبرز المناطق «المهددة» جراء هذه التطورات اللافتة هي منطقة وادي السيليكون في ولاية كاليفورنيا، والمنطقة تعتبر قلب صناعة البرمجة في التقنية الحديثة، فقد كانت تعتمد بشكل هائل على العقول المهاجرة، وكذلك الأمر بالنسبة للقطاع الطبي البالغ التنوع والبالغ الأهمية، الذي هو أيضا يعتمد على الكفاءات المهاجرة بشكل كبير. كل هذه التطورات شكلت ظاهرة يسمونها «الخروج المعاكس»، تبين خروجا كبيرا جدا من الكفاءات الكبرى إلى خارج البلاد، وهي مسألة جعلت قطاع الأعمال يصرخ مشتكيا، ويجمع قواه للضغط على الساسة لتطوير الوجه القانوني لقوانين الهجرة. ولعل أبلغ وصف هو الذي جاء على لسان أحد خبراء الإدارة لوصف ما يحدث: «أميركا حين تغلق باب الهجرة فهي تقطع شريان الحياة عن نفسها». شركات عملاقة وأيقونات أميركية، مثل «بيبسي كولا»، و«كوكاكولا»، و«آي بي إم»، و«سيتي بنك» و«ماكينزي» وغيرها، كلها كان مرؤوسوها من أبناء مهاجرين من دول نامية، في إنجاز لافت ودليل دامغ على قدرة المجتمع الأميركي على قبول المهاجر، وإنجاحه بشكل مبهر يفوق غيره، وهناك قناعة بأن هذا القانون الأرعن سيصب في صالح كندا وأستراليا ونيوزيلندا والبرازيل وسنغافورة وغيرها من الدول التي ترى في قوانين الهجرة فكرة مغرية لتحقيق إنجازات مبهرة تصب تماما في صالح الاقتصاد فيها. أميركا إذا لم «تُفِق» من هذا الخطأ، فستكون هذه المسألة نقطة تحول تاريخية في مسيرتها سياسيا واقتصاديا.

[email protected]