مصر والعجز عن الخروج من بستان الاشتراكية

TT

لا أحد يرغب أو يرحب بالخروج من البستان، أي بستان. ما عدا بستانا واحدا هو بستان الاشتراكية، الذي اندفعت شعوب كثيرة من سكان الأرض هاربة منه، بعد أن اكتشفت أن تلك البساتين هي في حقيقة الأمر حقول ألغام نسفت ماضيها وتهدد بتفجير حاضرها ومستقبلها، حدث ذلك في اللحظات الأخيرة من ثمانينات القرن الماضي. بعدها اندفعت كل الدول الاشتراكية لتسير في طريق جديد تخففت فيه من كل أثقالها، وأخطرها.. القطاع العام.

لنترك العالم ليهنأ بنجاحه في التحول إلى الحرية الفردية والاقتصاد الحر في سنوات قليلة، ولنكتفِ بمناقشة ما حدث لنا في مصر من عجز كلي حال بيننا وبين الخروج من حقل الألغام، بستان الاشتراكية سابقا.

ولعل هذا العجز يبدو أظهر ما يكون في مشكلات الصحافة المصرية وأحدثها، وليس آخرها، مشكلة رئيس تحرير جريدة قومية (اسم التدليل لجرائد الحكومة) تم فصله من منصبه تعسفيا لسماحه بنشر خبر اتضح فيما بعد أنه صحيح، بدليل أن صحفا أخرى نشرته ولم يفصل رؤساء تحريرها تعسفيا. الواقع أن رئيس التحرير فصل من عمله تعسفيا، لأنه سبق لمجلس الشورى أن قام بتعيينه تعسفيا أيضا. ليس هذا فقط، كل هذه المطبوعات الحكومية موجودة على الساحة بشكل متعسف، لأنها تابعة لذلك الغول القديم الذي يسمى القطاع العام، وهو ذلك القطاع الذي تتولى الحكومة الإنفاق عليه من ميزانيتها، ومن القروض الخارجية والداخلية (يعني فلوس المودعين في البنوك) والمنح التي تحصل عليها من طوب الأرض. غير أن ترعة الفلوس السايبة قد جفت الآن، ولم يعد من الممكن تحمل خسائر الصحافة المصرية والإعلام المصري إلى الأبد.. لم يعد هناك ما يسمى الأبد، فكل مشكلات مصر تدفع الناس للتوجع والصياح بحثا عن حلول لمشكلاتها.. هنا والآن.

رؤساء مجالس إدارة الصحف الآن مطلوب منهم تخفيض ميزانياتهم كنوع من العلاج المؤقت الذي لا يشفي الجروح بل يقوم بتلطيفها لمنع التهابها لحد الاشتعال، لذلك سنرى رئيس مجلس إدارة جريدة «الأهرام» يقوم بفصل نحو 160 كاتبا تجاوزوا سن الستين، ولا أعرف هل سيتمكن من تنفيذ قراره أم لا. هكذا ترى أنه تعامل معهم ليس بوصفهم كتابا هو في حاجة إلى كتاباتهم (معظمهم لا أحد في حاجة إلى كتاباته، أقصد ليس فيهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود) ولكن بوصفهم موظفين يحتم القانون خروجهم إلى المعاش. وحتى إذا نجح في ذلك، فلا شك أنه سينظر خلفه ليفاجأ بعدة آلاف من العاملين هو بالفعل ليس في حاجة إليهم، غير أنه سيعجز عن الاقتراب منهم بسوء بعد أن يكتشف، أو يدفعوه هم لاكتشاف أنهم تابعون لأقوى حزب في مصر، وهو حزب القطاع العام. وأنهم موجودون في كل مكان خلف الكاميرات وأمام الميكروفونات ويسبحون فوق أمواج أحبار الطباعة، سوف يحيلون حياته وحياة مجلس الشورى وحياة الحكومة إلى جحيم. وهم قادرون على ذلك، الصحافي المسكين الذي تولى العمل مكانه مؤقتا تعرض لحملة ضارية في الفضائيات، وصرخ فيه أحد المذيعين: لقد وصلت سيادتك لرئاسة التحرير على جثة زميلك.

هكذا حوّل الزميل المفصول، أو الموقوف تعسفيا، إلى جثة، معبرا بذلك بصدق عما يؤمن به إنسان القطاع العام، وهو أن الإنسان يموت بخروجه من القطاع العام، تماما كما يحدث للسمكة بمجرد خروجها من الماء.

هي فكرة قديمة تعشش في عقول المصريين منذ مئات السنين وربما آلافها، ولخصتها تلك النصيحة المشهورة «إن فاتك الميري.. اتمرغ في ترابه»، و«الميري» هو كل ما هو حكومي.

بعد أن تفجرت فكرة الاشتراكية العلمية على الأساس الماركسي في العالم كله، كان لا بد أن تصل بعض آثار هذه التفجيرات إلى مصر، ولكن بخبرة الحكومات المصرية الطويلة في «الزوغان» من الأخطار المفاجئة، اتخذت قرارا غير معلن بإيهام العام كله بأنها تتحول إلى الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق، في الوقت الذي كانت تعمل فيه في حقيقة الأمر على الاحتفاظ بكل مؤسسات القطاع العام، وكانت أول خطوة جريئة هي إلغاء القطاع العام، نعم، إلغاؤه وتحويله إلى قطاع أعمال. بعدها تفرغت للحصول على القروض والمنح التي تساعدها في بعث الحياة في أوردة هذا الوليد الجديد. أما عمليات البيع لبعض الشركات والمصانع فهي خاضعة للحظ، وحتى لو كانت عملية البيع نظيفة تماما، ولم يحدث فيها أي تربح أو سمسرة، فمن المتوقع أن ترفع على المالك الجديد عدة قضايا يخسرها غالبا، لعدم مراعاته لقوانين أو لوائح لا أحد يعرف عنها شيئا. لقد حكمت المحاكم بإلغاء عملية بيع بعض المؤسسات وإعادتها إلى ملكية الحكومة التي صرخت: «مش عاوزاها.. دي عليها فلوس كتير للبنوك».

في الوقت الذي صاح فيه المشتري مبتهجا وهو يغادر مطار القاهرة: «وأنا كمان مش عاوزها الحمد لله.. الخسارة القريبة ولا المكسب البعيد».

أما مسؤولو النقابات المدافعون (عن أملاك الشعب المصري)، الذين كسبوا القضية، فقد جلسوا على مقهى قريب يحتفلون بصدور الحكم، ويؤكدون أنهم سيقفون بالمرصاد لكل من يفكر في بيع مصر. وفي نهاية الجلسة، يتوجه بعضهم لمكتب المحامي ليرفع لهم قضية جديدة ضد الحكومة يطالبون فيها بالحوافز والأجر الإضافي، التي لم يتم صرفها لهم في السنوات الماضية.

الجهاز الإداري في مصر عدده 6 ملايين موظف، والجهاز الإداري في الصين عدده 3 ملايين موظف.. ما رأيك؟

حتى هؤلاء الذين يعملون في مشاريع إعلامية خاصة، ستجد بينهم عددا كبيرا يهاجمون بضراوة رجال الأعمال (الأوغاد) الذين يريدون تحويل مصر إلى عزب خاصة بهم؛ هل هم مخطئون؟ الواقع أنهم يعبرون بصدق عما يعتقدونه، وهو أن الحياة ذاتها قطاع عام، وأن عليهم الدفاع عنه وعن ترابه، حتى لو تطلب الأمر أن يتمرغوا فيه.

الحصول على العيش، ممارسة الحرية، الاستمتاع بالكرامة الإنسانية، كلها أمور مستحيلة في ظل سيطرة الحكومة بقوانينها ولوائحها على المشروع الفردي. وما لم تتخذ مصر قرارا بالخروج من بستان الاشتراكية إلى الهواء الطلق، فلا أمل في إنقاذ مصر مما هي فيه. وإذا تصور مخلوق أن في ذلك إضعافا لدور الدولة، نقول له: الدولة الضعيفة هي الدولة الفقيرة التي تزداد فقرا في كل لحظة، أما الدولة القوية فهي تلك الدولة التي يحميها أفراد أصحاب مشاريع صغيرة وعملاقة. وبذلك يكون دورها هو أن تشعرهم بالأمن والسلامة وبالحرية؛ حرية الإبداع والإنتاج، وأن تقوم بحماية هذه الحرية.

أسواق السياسة في مصر مكتظة بالمفاهيم المغلوطة، وفي غياب عملية مصارحة شاملة للناس بكل الأخطاء التي مارسناها ونمارسها، سيكون الطريق الوحيد المتاح لنا هو الرجوع إلى الخلف. لم يحدث من قبل في أي مكان على الأرض أن نجحت عملية خداع الذات في تحقيق أي هدف. وعلى كل الناس، بمن فيهم الحكومة، أن يفهموا أن فلوس المودعين في البنوك المصرية هي ملك خالص لمن أودعوها.. ماشي؟