الهدنة.. الهدنة.. ولو كمن يتجرع السم

TT

ليس جديدا على الأمة أن عيد الأضحى، ومن قبل عيد الفطر وذكرى المولد النبوي وذكرى عاشوراء، لا تلقى من جانب بعض الأطياف العربية والإسلامية المتصارعة وقفة تهيب أمام هذه المناسبات الكريمة؛ فلا يتوقف اقتتال هذه الأطياف ولا تتبدل لغة التخاطب، مع أن أبسط الأمور أن يغتنم هؤلاء، وبالذات الأطراف الأقوى سلطة وقوة، مثل هذه المناسبات، فيبادروا إلى إبداء حسْن النية، وتسجيل إشارة توحي بالرغبة في طي صفحة الاقتتال وبدء صفحة التصافي، وذلك ضمن أجواء تحققها هدنة غير مقيدة بفترة زمنية.

في زمن الحرب اللبنانية لم يحدث ما نشير إليه، وكان من المحزن جدا أن أصوات المؤذنين في المساجد تترافق مع طلقات الرشاشات، وأحيانا يحجب هدير الصاروخ صوت المؤذن وابتهالات المبتهلين عند صلاة الفجر. كذلك كان يحدث ما هو أكثر إيلاما على النفس، وذلك عندما يكون هنالك مصلون يؤدون صلاة الجمعة ثم يفاجئهم صاروخ يأتي على الكثيرين وتختلط دماء المصلين بالمصحف الشريف. وما رواه شهود على حالات من هذا الذي نشير إليه يدمي القلب.

وخلال سنوات الحرب العراقية - الإيرانية سعى أصحاب نوايا طيبة إلى إقناع المتقاتلين بإعلان هدنة طويلة والتحادث فيما يمكن التفاهم حوله، لكن السعي لم يثمر. ولقد مرت مناسبات الأضحى والفطر والمولد النبوي وعاشوراء طوال ثماني سنوات من دون أن تلقى من طرفي تلك الحرب بعض التهيب، خصوصا أن الهدنة تتيح لهذا المقاتل أو ذاك أن يزور أهلا، ويحتضن ولدا، ويطمئن شعبا.

أما لماذا كانت هذه الهدنات في المناسبات الروحية الكريمة لا تحدث، فلأن العناد وقساوة القلوب والغلو في التطلعات المستحيلة كانت تتقدم على المشاعر الروحانية. وفي نهاية المطاف لم يبق العناد هو سيد الموقف، واضطر المتقاتلون إلى الأخذ بمبدأ التفاوض في ظل هدنة، كان الجانب العراقي للإنصاف يريدها، لكن الجانب الإيراني كان رافضا الأخذ بها، وفي اعتقاده أن الهدنة هي في بعض معانيها إقرار بالعجز عن مواصلة التحدي. وبسبب التأجيل المتواصل لاعتماد هدنة يتم في ظل أجوائها الحوار الذي يختصر سقوط أرواح وتدمير مدن، فإن فرصة إنهاء الحرب تضاءلت وفاضت أرواح ألوف الناس، وبقي العناد يشق طريقه إلى أن كانت لحظة الإقرار بالخطوة متمثلة بإعلان الإمام آية الله الخميني، وبما يشبه الفتوى، القبول بوقف إطلاق النار، وأنه يرتضي ذلك كمن يتجرع السم. ويا ليته لم يقرن القبول بهذه الحيثية، ذلك أن اختصار فواجع الاقتتال وسقوط الضحايا وتدمير المدن هو فعْل خير يتباهى به من يقرره، وليس إثما لكي يتم تشبيهه بجرعة سامة.

المهم أن وقْف القتال حدث على رغم تفسيرات لاحقة بأن ذلك لا يعني انتهاء الحرب، وإنما هو هدنة. ولو أن تلك الخطوة لم تحدث لكانت الحرب طالت، ولكانت جثث العساكر من الطرفين العراقي والإيراني منتشرة لا سبيل لجمعها ودفنها. وبعد قرار وقف القتال الأشبه بتجرع السم، على حد قول الإمام الخميني، حدثت جولات من التفاوض الذي لم يحقق نتيجة.

في ضوء تلك الأمثولة نجد أنفسنا ونحن نتابع المسلسل الدموي والتدميري اليومي الذي يحصل في سوريا، وللشهر الثاني والعشرين على التوالي، ومن دون انقطاع، نقول إن الهدنة بأمل وقف الاقتتال هو الأمر المستحب، وخصوصا أن الدعوة إلى ذلك جاءت لمناسبة روحانية، فضلا عن أن طرفي الاقتتال مسلمون، وأنهما يخوضان مواجهة ينطبق عليها القول الذي لا جدال في معناه، وهو أن القاتل والمقتول في النار. وحتى إذا بدا للطرف القوي في المواجهة، وهو بطبيعة الحال النظام وليس المنتفضين عليه، أن الهدنة هي كمن يتجرع السم، بتوصيف الإمام الخميني لها، فإنها مستحبة ما دامت قد تتطور إلى وقْف نهائي للاقتتال، فإلى علاج ما واقعي كان هذا العلاج على نحو علاج «اتفاق الطائف» للمحنة اللبنانية أو العلاج الخليجي - الدولي للمحنة اليمنية، أو علاجا على قاعدة ما لعمرو لعمرو وما للناس للناس.

وثمة خطوة حدثت فجأة، ونفترض أن نظام الرئيس بشار الأسد والنظام الإيراني، الحليف الثالث المعطل للتهدئة، ونكاد نقول للتسوية، إلى جانب الحليفين الروسي والصيني، استوقفتهما وتعكس حقيقة أساسية، وهي أن هذين الحليفين العضوين الرابع والخامس في مجلس الأمن الدولي يتفاهمان عند الضرورة مع الأعضاء الثلاثة الآخرين: أميركا وبريطانيا وفرنسا، على مسألة عادية، وهي المتعلقة بعدم تغيير الحكومة اللبنانية التي يترأسها نجيب ميقاتي، والتي انتفضت المعارضة الحريرية عليها فور اغتيال رئيس شعبة المعلومات اللواء وسام الحسن وتشييع جثمانه كبطل أمني، مثل التشييع الذي جرى للرئيس رفيق الحريري، ثم دفْنه بجوار الرئيس الشهيد. وكان لافتا قيام سفراء الدول الخمس المالكة حق «الفيتو» بالتوجه إلى القصر الجمهوري لإبلاغ الرئيس ميشال سليمان بالموقف الموحد الذي لا «فيتو» عليه من جانب دولهم، وإسناد مهمة الإعلان عن ذلك إلى ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان. وبطبيعة الحال تم الأخذ بالطلب، وأدى الرئيس ميقاتي فريضة الحج، وبما يعزز ذلك ديمومته على الأرجح رئيسا للحكومة. وما نريد قوله أن مصلحة الدول الخمس كانت فيما فعلتْه بالنسبة إلى لبنان، بينما مصلحة القادة فيها، وكل له أسبابه، أن تبقى ألسنة اللهيب مشتعلة في الفضاء السوري. أميركا تريد ذلك لأن رئيسها يتطلع إلى تجديد الرئاسة بعد أسابيع، ومن شأن موقف حازم تجاه النظام السوري والنظام الإيراني التسبب في تعطيل للفوز. وما تريده الإدارة الأميركية لا تعترض عليه حكمْا بريطانيا وفرنسا. أما روسيا والصين فترى كل منهما أن الهدنة قد تنتهي في لحظة صحوة واستعادة الضمير الغائب إلى تسوية، ثم إلى حل ينطبق عليه قول الشاعر:

وإن الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وعندما يحدث ذلك فإنه بطبيعة الحال لا تنال روسيا والصين من العهد السوري الجديد الوفاقي سوى اللوم، وربما النأي عنهما.

من هنا يجيز الحريصون على سوريا الرقم الصعب في المعادلة الإقليمية في حال استدارت واهتم نظامهما بقضايا الداخل، وفي مناخ من الأمان النفسي والاجتماعي، وفي ظل سياسة احترام سيادات الآخرين، واعتماد الديمقراطية بدل القبضة الأمنية، والعدالة بدل الهيمنة، وعدم التحرش بلبنان وغيره، وكذلك الحريصون على الحليف الثالث لها، الجمهورية الإسلامية، المعول عليها كدولة قوية حريصة على أواصر الصداقة والجوار، وليست على نحو ما تفعله وترمي إليه وتضمره، متسببة لجيرانها بحالة من القلق... يجيز الحريصون بالذات على سوريا، كما على إيران، ونحن منهم، القول إن الاقتراح الذي انتهى إليه المبعوث الأممي العربي المسلم الأخضر الإبراهيمي كان وصفة علاجية وفي اعتقاده أن سوريا المقتتلة ستتعامل مع هذا الاقتراح بما يستوجب الأخذ به، وحتى إذا رأى الطرف الأقوى الذي هو النظام أن القبول هو كمن يتجرع السم. وأما تخريجه القبول الاختياري الانفرادي بالاقتراح، فإنه مثل حالة الحب عندما يكون من طرف واحد.