ثمن الحرية

TT

هناك مخاوف من النتائج الاقتصادية للربيع العربي. لقد أصيب اقتصاد دول الربيع العربي بخسائر كبيرة، والسؤال هو: إلامَ ستستمر هذه الخسائر؟

فهناك دروس أليمة ارتبطت بالأحوال الراهنة لجنوب أفريقيا. لم يشهد العالم فرحة كالفرحة التي شعرنا بها عندما نال السود التحرر والمساواة وتسلم مانديلا الحكم من البيض. بيد أن النتائج الاقتصادية والاجتماعية لم تعزز هذه الفرحة.. يأتي في مقدمة ذلك اختلال الأمن.. أصبح القتل والسلب ظاهرة شائعة، كما هي الحال في العراق.. انعكس ذلك على هبوط الاستثمار والسياحة في البلاد وتحاشي الغربيين حتى دخولها ناهيك بالاستثمار فيها. ارتفعت البطالة من 9% في عهد التمييز العنصري إلى 30% في عهد المساواة، وانخفض دخل الفرد من 23% إلى 12%.. يعيش ثلث السكان الآن على أقل من 1.25 دولار يوميا، ويعتبر النمو السنوي البالغ نحو 3.5% متواضعا جدا بالنسبة لمعظم الدول النامية.

تعتز جنوب أفريقيا بمستوى التعليم فيها، فنسبة الأمية لا تتجاوز 18%. بيد أن تدهورا مشابها حدث في ميدان التعليم أيضا إلى درجة أن رفعت إحدى المنظمات دعوى ضد وزير التعليم ووزير المالية لفشلهما في هذا الموضوع ولما جرى من فساد في الإدارة.. فجنوب أفريقيا تخصص نسبة عالية من ميزانياتها للتعليم والثقافة، ولكن المردود لا يعكس ذلك قط.. اللامسؤولية في العمل والفساد في العقود والصفقات يبدد ميزانية التعليم.

دفعت هذه الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما اختلال الأمن والنظام، الكثير من أصحاب المهن والعمال الماهرين إلى مغادرة البلاد والهجرة إلى أوروبا، أيضا على نحو ما جرى عندنا، لا سيما في العراق.

إننا كثيرا ما نعتز بتجربة جنوب أفريقيا وشخصية زعيمها مانديلا.. نعجب بصورة خاصة بالانسجام والتعايش بين سكانها على تعدد ألوانهم وخلفياتهم ومعتقداتهم. بيد أن للمواطنين هناك تحفظاتهم وشكوكهم.. أخذوا يوجهون الانتقاد حتى لمانديلا.. تسمعهم يقولون إنه قضى معظم وقته رئيسا للبلاد في الانشغال بالعلاقات العامة وزيارة البلدان في الخارج وحضور الندوات والمؤتمرات، تاركا شؤون البلاد الداخلية بيد شلة من الحرامية حتى أصبح الفساد بعد تنحيه عن الرئاسة ظاهرة شائعة ساهم فيها حتى رؤساء البلاد.. فالرئيس الحالي مثلا وجهت له اتهامات في قضية فساد.. وهذه مشكلة أخرى نشاطرها فيها؛ شيوع الفساد، من رشى واختلاسات واستغلال للمرأة.

هذا في الواقع ما يدفع كثيرين إلى الاعتقاد بأن الحكم السلطوي أو الديكتاتوري أو الفردي ناجع أكثر من الحكم الديمقراطي في البلدان المتخلفة والنامية، على الأقل بالنسبة لضبط الأمن والنظام وضمان الاستقرار؛ العنصر المهم للتنمية والاستثمار. يظهر أن الحرية بضاعة مكلفة، لا سيما عندما يحصل عليها المواطنون بصورة مفاجئة، وهذا ما يحملني دائما على التعلق بالتطور التدريجي للمجتمع والحكم.