معركة السنة.. أم على السنة.. أم بين السنة

TT

«سيذكرني قومي إذا جد جدهم.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»

(أبو فراس الحمداني)

مخططو الاغتيال السياسي تتجاوز أهدافهم - عادة - مجرد إزاحة عقبة عن طريق مشاريعهم، بل تدخل في مخططاتهم عناصر مهمة كالتوقيت المثالي للجريمة، وثمنها، والحصيلة المتوخاة منها.

في لبنان وقعت جرائم اغتيال سياسية فظيعة بعد اندلاع الحرب اللبنانية. ومع أن كل اغتيال جريمة بشعة، فإنه يجب التمييز بين «الاغتيال الرسالة» و«الاغتيال الانتقامي الكيدي» و«الاغتيال الاستراتيجي». والأخطر بينها هو النوع الثالث الذي يهدف إما لزرع الفتنة أو لإلغاء قوة سياسية فاعلة ومؤثرة على الساحة.

جرائم اغتيال كمال جنبلاط عام 1977، ورفيق الحريري عام 2005، وبيار أمين الجميل عام 2006، ووسام الحسن عام 2012.. من النوع الثالث بامتياز، لأنها تجمع هدف زرع الفتنة وهدف نسف قوة سياسية، وتضم عناصر التوقيت والثمن والحصيلة المتوخاة. وبناء عليه، يتوجب على أي طرف سياسي في لبنان، وكذلك في الدول العربية المهتمة بلبنان، التعقل.. وإدراك خلفيات جريمة اغتيال وسام الحسن التوقيتية والتكتيكية والاستراتيجية.

فليس من قبيل الصدفة التخلص من الحسن مع تسارع إيقاع الواقع السوري، وانكشاف دور جهات لبنانية في القتال مع نظام بشار الأسد، مقابل الدعم الإغاثي والسياسي الذي يقدمه خصوم النظام اللبنانيون.. الذين قرروا التحالف مع الشعب السوري ضد قاتليه.

وليس مستغربا أن تأتي الجريمة مع العد التنازلي للانتخابات الأميركية بكل ما يحيط بها من تشابكات اعتبارية وخطوات حذرة محسوبة، ومنها إحجام واشنطن عن الزج بنفسها في مستنقع مواجهة شرق أوسطية أثناء الحملة الانتخابية.

ثم إنه، من دون تعجل الاتهام، من الطبيعي أن تبادر إيران التي تتباهى برفع لواء مقاومة الغرب ومواجهة إسرائيل إلى اعتماد مبدأ «الهجوم خير وسائل الدفاع». وهذا، بالضبط، ما فعلته وتفعله خلال السنوات الأخيرة على امتداد المنطقة.. من العراق والبحرين، إلى اليمن، ومنها إلى السودان ومصر وغزة، وصولا إلى لبنان وسوريا. أليس منطقيا أن تفضل إيران خوض معركة نفوذها في «المعادلة الإقليمية» وتقاسم كعكة الشرق الأوسط في شوارع بيروت وجبال اليمن وعلى أنقاض حمص وحلب ودمشق.. بدلا من الاضطرار إلى خوضها داخل أراضيها؟

وهنا نصل إلى مسألة محورية، هي المسألة الطائفية، وتحديدا حرص النظام السوري على تصوير حربه ضد شعبه على أنها حرب ضد التطرف الديني. والقصد المكشوف طبعا هو «التطرف السني»، خاصة أن الحليف الإقليمي غير «السني» لنظام دمشق نظام ديني أبعد ما يكون عن العلمانية والانفتاح المذهبي. وبالتالي، من يقرر أيهما أكثر تطرفا.. أتباع «الأخونة» أو «السلفية» السنية أم «ولاية الفقيه» الشيعية؟

اليوم، مع استمرار المجازر القمعية في سوريا، سقطت الأسوار وتحولت سوريا في أنظار كثيرين إلى «أرض جهاد» مشروع. وبالنسبة للشراذم والجماعات «الجهادية»، التي تتعرض للمطاردة في عدة أمكنة على امتداد العالم، ها قد توافر لها موطئ قدم.. يكفل لها غايتي الجهاد والاستشهاد. وبصرف النظر عن حجمها الحقيقي على أرض المعارك وثقلها السياسي في صفوف الشعب السوري غدا مجرد ذكر هذه الشراذم والجماعات «ذريعة» يسعى نظام دمشق وحلفاؤه وداعموه إلى تضخيمها وتسويقها.

ونعود إلى لبنان.. في لبنان، منذ 2005، قام تحالفان تكتيكيان فضفاضان للأحزاب والتكتلات السياسية والطائفية، هما «14 آذار» و«8 «آذار»، على أساسي «القاسم الأدنى المشترك» و«عدو عدوي صديقي». ولقد أثبتت التجارب خلال السنوات الأخيرة هشاشة التحالفين لجهة الافتقار للمبادئ الصلبة المفترض أن تكون العمود الفقري المطلبي لأي تجمع سياسي جدي. ولكن كان هناك فارقان بين وضعي التحالفين:

الفارق الأول، وجود «مايسترو» مالي وعسكري في «8 آذار» قادر على الضبط والحسم والتجييش والتجيير، بينما يفتقر «14 آذار» لمثل هذا «المايسترو».

الفارق الثاني، التفاوت في قوة التزام المحاور الإقليمية بدعم التحالف المحسوب عليها. فمقابل الرعاية المباشرة لـ«8 آذار» عند القوى الإقليمية المحسوب عليها تخطيطا وتمويلا ودعما أمنيا وعسكريا، لم يرقَ مستوى الدعم الإقليمي والدولي لـ«14 آذار» إلى مستوى الرعاية مطلقا.

وبعد تفجير النائب ميشال عون وحدة الساحة المسيحية، وتراجع ثقل الكتلة الدرزية لاعتبارات ديموغرافية، غلب على الساحة اللبنانية طابع المواجهة بين «السنية السياسية» ممثلة بتيار المستقبل، و«الشيعية السياسية» ممثلة بحزب الله وحركة أمل. وهذا مع أن الصورة العامة لا تعني أنه لا تعددية ضمن الطائفتين الكبيرتين. فالتعددية موجودة وحاضرة. ومثلما سعى «المستقبل» ويسعى لإحداث اختراق في هيمنة الثنائي الشيعي على ساحته الطائفية، سعى هذا الثنائي ويسعى إلى إحداث اختراق مقابل في الساحة السنية.

غير أن الثنائي الشيعي، بفضل سلاحه وعلاقته الاستراتيجية بمحور طهران - دمشق، يتمتع بأفضلية قدرته على الابتزاز الأمني - العسكري، بجانب إغداق ما يدعوه «المال النظيف» في مشاريع النفع العام التي تعزز إمساكه بمقدرات الطائفة الشيعية. في المقابل، بنى «المستقبل» - الحديث العهد في معترك السياسة العقائدية - حضوره حصرا تقريبا على مشاريع النفع العام بفضل مؤسسات الحريري.

وبينما احتفظ الثنائي الشيعي بقواعد نفوذه الأمني والخدماتي في بيئته المباشرة، خرجت في الساحة السنية قوى وشخصيات ثرية لها طموحات وارتباطات سياسية، كرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، أتاحت لها منافسة آل الحريري في مجال مشاريع النفع العام. وأدى نجاح هذه الشخصيات، ولو مؤقتا، إلى اضطرار «المستقبل» أكثر فأكثر إلى مخاطبة الشارع السني بلغة طائفية يتعاطف معها، كإثارة موضوع «استهداف الطائفة» وتحجيم دورها.

ميقاتي رمى بالأمس قفاز التحدي في وجه «المستقبل»، بعدما امتص عنصر المباغتة بإبدائه الاستعداد للاستقالة، ولعل ما دفعه إلى هذا التحدي العلني بضعة أمور:

- الأول، موقف السفراء الأجانب الذين تخوفوا علنا من فراغ في لبنان بغياب الإدارة الحكومية الخاضعة للمساءلة، وسط تعقيدات الأزمة السورية وعلى أبواب الانتخابات الأميركية.

- الثاني، التحدي العلني لمفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني - الذي بات في الخندق المناوئ لــ«المستقبل» - الذي رفض صراحةً الدعوة لإسقاط الحكومة تحت ضغط الشارع، كما رفض البطريرك الماروني السابق نصر الله صفير عام 2005 إسقاط الرئيس الماروني إميل لحود بقوة الشارع، معتبرا ذلك سابقة تمس مقام رئيس الوزراء السني.

- الثالث، تعجل «المستقبل» وضع كل من يتحفظ عن موقفه في خانة المتآمرين والمتواطئين ضمن محور طهران - دمشق (!) و«تحالف الأقليات»، وهو ما ينطبق على رئيس الجمهورية ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط. وهذا ما من شأنه إفقاد «14 آذار» تعاطف جزء لا بأس به من المسيحيين والدروز لا مصلحة لـ«14 آذار» ولا «المستقبل» في خسارته الآن.

- الرابع، أن القوى الإقليمية المناوئة لمحور طهران - دمشق تدرك تماما خطورة توقيت اغتيال وسام الحسن، ولذا لم تدعُ مباشرة إلى إسقاط الحكومة، لا سيما أن البنية الأمنية التي تحكم الحالة اللبنانية اليوم لن تتأثر بتغيير رأس الحكومة أو تشكيلها.

لذا، على من يتكلمون اليوم باسم السنة في لبنان ويحرصون على وحدتهم، أن يكونوا أكثر حكمة وحصافة.

وحذار حذار من جعل معركة السنة معركة على السنة، ومعركة بين السنة أنفسهم.