انسلخ الليل من النهار

TT

لا أظن أن هناك شعبا عربيا لديه سرعة البديهة ويجيبها مثلما يقولون (على القافية) أكثر من الشعب المصري، وقد يكون للظروف العجيبة والمتناقضة التي تكالبت عليه على مر العصور دور بذلك، إلى درجة أنه حتى المهاجرون الشوام وغيرهم استنبطوا وانخرطوا في تلك الصفة، منها على سبيل المثال: أن (جورج أبيض) المسرحي الكبير، حاول عبثا أن يجعل من أخيه (سليم) ممثلا له قيمته دون جدوى، فما كان منه في النهاية إلا أن يطرده من المسرح شر طردة، وهاج سليم وصاح بأخيه قائلا:

أنت فاكر نفسك؟ إيه أنا أحسن منك. وهنا ثارت ثائرة جورج، وصرخ فيه: أنت أحسن مني، وأنا مش عارف أخليك على الأقل بني آدم؟!

فأجابه وهو ما زال منفعلا: كل الناس تعرف إني أحسن منك، أنا أخويا ممثل عظيم (قد الدنيا)، اسمه جورج أبيض، أما أنت فأخوك ممثل جربوع ما يسواش تلاته مليم.

وهنا انفجر جورج وبقية الممثلين ضاحكين وأسدلت الستارة على عودة الصفاء والإخاء.

وإليكم هذه الحادثة الموثقة كذلك:

كان شيخ المحامين إبراهيم الهلباوي في أول حياته شابا مغمورا يقيم بدمنهور ولم يرَ القاهرة قط، وحدث أن كتب مقالا وأرسل به إلى إحدى الصحف في مهاجمة رياض باشا ناظر النظار في ذلك الوقت، فلما نشر واطلع عليه رياض باشا غضب غضبا شديدا وطلب إحضار كاتب هذا المقال إليه، فكان أن قبض البوليس على الهلباوي في دمنهور وجاءوا به مكبلا في الحديد، فلما أدخل على رياض باشا رآه شابا زري الحال يرتدي جبة ممزقة، فنظر إليه في احتقار قائلا:

أأنت الذي كتبت هذا المقال؟، قال الهلباوي: نعم.

فصاح فيه رياض باشا: والله لأخرب بيتك.

فرد الهلباوي باسما: والله لن تستطيع ولن يستطيع من هو أقوى منك أن يخرب بيتي!

فانتفض رياض باشا في مكانه وصرخ في حدة:

أأتتحداني؟

قال الهلباوي: لأ، ولكن ماليش بيت حتى تخربه.

فسكنت ثائرة رياض باشا وقرب الهلباوي إليه وآثره بعطفه.

وأظن أن أحد الإخوة من السودان قد جارى أهل مصر في هذه الموهبة إن لم يكن قد تفوق عليهم.

وأنتم تعرفون أو على الأقل الكثير منكم يعرفون أن (وحدة وادي النيل) بين مصر والسودان كانت مطلبا شعبيا إبان الاستعمار البريطاني للقطرين، وكان الملك وقتها يسمى بـ(ملك مصر والسودان).

وفي أحد الاحتفالات تكلم رئيس الوزراء حديثا وطنيا وأخذ يعدد ما يجمع القطرين من اللغة والدين وحتى الموسيقى.

وختم خطبته قائلا: إن هذه الوحدة يمثلها قوله تعالى في كتابه الكريم: «يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل».

وهنا صاح أحد السودانيين قائلا بمداعبة:

أرجوك يا سيادة الرئيس بلاش الاستشهاد ده، لحسن بريطانيا تستشهد هي الأخرى بقوله تعالى: «الليل نسلخ منه النهار»، ودي مش في مصلحتنا، فضحك الرئيس، وصفق الحضور.

ومرت الأيام، وانسلخ فعلا الليل من النهار.

[email protected]