الهند المتجددة!

TT

علماء النفس وبعض خبراء تطوير الذات دائما ما ينصحون مراجعيهم بالعمل الدؤوب على إعادة اكتشاف الذات وتجديدها وتطويرها، وهي مهمة مثيرة ومليئة بالتحديات، والشيء اللافت أن هذه النصيحة تتبعها بعض الدول والشعوب. والأمم تسعى جاهدة تحت قيادة ناجحة وملهمة أن تعيد توظيف قدراتها ومواردها وطاقاتها لصالح هدف قومي عام تتحد عليه كل الجهود، وهو ما قامت به البرازيل وتركيا وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة في السنوات الأخيرة بشكل ناجح ومبهر جعل من هذه الدول مضربا للأمثال، وباتت قصتهم تروى وتحكى على سبيل التعليم والتدبر والاستفادة. اليوم تسعى الهند جاهدة وبقوة على عمل ذات الشيء في إعادة اكتشاف نفسها وإعادة «موضعة» نفسها بين الأمم. فقديما كانت الهند راضية ومقتنعة بمكانتها كدولة «تنافس» باكستان وسريلانكا وبنغلاديش ونيبال وتقبل أن تقارن إنجازاتها مع هذه العينات من الدول المتواضعة، إلا أنه مع مرور الوقت واستمرار الإنجازات الهندية على مستوى الحريات والتعليم والاقتصاد والصناعة والخدمات وتزايد قيمة ووزن الجاليات الهندية في المهجر، وتحول الفنون والآداب الهندية إلى قوى ناعمة عالميا ومؤثرة وذات قيمة مضافة استثنائية لها.. تحول كل ذلك إلى أسباب مقنعة لأن تزداد الهند ثقة وقوة واعتزازا بنفسها وباتت تقارن نفسها بالتدريج مع الصين وروسيا ودول أهم وأكثر ثقلا مما ولد لديها الرغبة في المقارعة مع مستعمري البارحة من أوروبيين وغيرهم. الهند عانت الأمرين من النظرات العنصرية بحقها من الغرب المستعمر ومن الدول المجاورة ومن العالم الثالث. فالغرب المستعمر لم يأخذ الهند على محمل الاحترام والجدية وظل دائما ينظر إليها كسوق فيها مجاميع من البشر المتناحرة! أما العالم الثالث فكان ينظر للهنود على أنهم مجاميع مستغلة تسعى لتحقيق المكاسب على حسابهم، والعرب ظلوا هم أيضا ينظرون بنظرة دونية وشديدة العنصرية للهنود على أنهم جهلة وخدم أغبياء لا قدرة لديهم سوى أن يكونوا في المراتب الدنيا من الحياة، وبالتالي انعكس هذا الاعتقاد في تعاملهم الثقافي والفكري والسياسي والاقتصادي معهم.

اليوم الهند قررت أن تعين في تشكيل طاقمها الوزاري مجموعة من الوزراء الشباب الذين لديهم نظرة حيوية «مختلفة» قادرة على منافسة الدول الصناعية الكبرى. وتسعى الهند جاهدة لأن تكون إحدى أفضل الديمقراطيات في العالم من ناحية الحوكمة الرشيدة وليس فقط الاعتراف بها كأكبر ديمقراطية في العالم فحسب، وتبذل الهند قصارى جهدها في محاربة الفساد وتطوير القضاء وإزالة الروتين وتدرك أن كل ذلك لو نجح سيكون عنصر جذب هائلا للمستثمرين في البلاد.

الهند ستقدم على خارطة استثمارية هائلة في مجال الطاقة البديلة والسكك الحديدية والطرق والجسور والأنفاق لتحسين الرقعة التنافسية للبلاد أسوة بالصين وماليزيا وإندونيسيا وحتى روسيا التي سعت وتسعى لتطوير بلادها حتى تكون في وضع أكثر تنافسية لجلب الاستثمارات الأجنبية بشكل أفضل.

الهند تعيد اكتشاف نفسها وبمشروع قومي كبير ينعكس على كافة القطاعات بلا استثناء، وها هي كأهم دول العالم في إنتاج الشاي تفتح سوقها لأهم سلسلة مبيعات القهوة «ستاربكس» دون أن يؤثر ذلك على اقتصاد الشاي، ولكنها تمنع دخول أخطبوط التجزئة (وول مارت) لما تراه تهديدا لمتاجرها بشكل كبير.

الهند الجديدة القوية الواثقة ستكون أكثر فائدة لاقتصاد عالمي متوازن ومتنوع وتعطي الأمل والمثال لدول العالم الثالث الباحثين عن تجربة يمكن الاقتداء بها وتقليدها كنموذج واعد ومشرف.

[email protected]