لماذا قد يكون الاقتصاد أفضل مما نعتقد؟

TT

ربما يحمل هذا عنصر مفاجأة لقراء هذا المقال، لكنني أشعر بالتفاؤل هذه الأيام بشأن الاقتصاد الأميركي.

ليست المفاجأة أن يكون الدليل الإحصائي (انخفاض معدل البطالة وبدء حدوث طفرة في الإسكان) مقنعا بدرجة هائلة. يظل انتعاشنا الاقتصادي ضعيفا، وهو ما يبدو جيدا بدرجة كبيرة، نظرا لأنه قد صمد في مواجهة الاختلال السياسي وارتفاع أسعار النفط والتقلص المالي الوشيك والرياح المعاكسة العالمية. على المدى القصير، لا يمكن استبعاد احتمالية أن يكون هناك ربع أو ربعان بمعدل نمو يقترب من الصفر.

وعلى الرغم من ذلك فإن ما أرغب في التركيز عليه هو التعديلات الهيكلية الأطول أجلا وإعادة التوازن لاقتصادنا ما بعد الفقاعة، وهو الأمر المطلوب قبل أن يبدأ انتعاش قوي ومستدام. ومن ذلك المنظور تبدو الإشارات إيجابية.

بالنسبة للمبتدئين، بقدر ما يمكن أن تبدو الأمور سيئة هنا في أرض الوطن، فإنها تبدو أسوأ في جميع المناطق الأخرى. بعد أعوام من مشاهدة الزخم وتدفق رأس مال الاستثمار خارج الدولة، يبدو من المشجع الآن أن نراه يبدأ في التدفق مجددا عائدا إلى أرض الوطن. وهذا لا يساعد في إبقاء أسعار الفائدة عند مستوى منخفض ورفع أسعار الأسهم فحسب، بل إن ثمة إشارات دالة على فائدة جديدة تعود على الشركات الأجنبية ممثلة في توسيع نطاق الإنتاج والعمليات في الولايات المتحدة. ويترجم هذا في صورة زيادة في الوظائف وارتفاع في الدخول.

قبل عقد مضى، بدا أن أماكن مثل الصين والهند تتمتع بجميع سمات الجذب - كم هائل من هذه السمات، في حقيقة الأمر - إلى حد أن الأمر قد انتهى بها إلى فقاعات اقتصادية خاصة بها. الآن، في مواجهة الطاقة الفائضة وتكاليف العمليات المرتفعة بشكل حاد، تضاءلت تلك الحالة من الإثارة، جنبا إلى جنب مع تدفق رأس المال والتكنولوجيا. حتى إن الصينيين قد قرروا التحلي بالجدية بشأن إعادة التوازن، سامحين لقيمة عملتهم التي يتم التلاعب بها بالارتفاع إلى مستوى يقارب قيمتها السوقية الحقيقية، مع إعادة توجيه بعض من فائضها التجاري مع الولايات المتحدة من سندات الخزانة إلى استثمارات مباشرة في شركات أميركية.

ثمة إدراك متزايد بين المستثمرين والمسؤولين التنفيذيين العالميين مفاده أن الصين والهند ما زالتا تفتقران إلى البنية التحتية السياسية والمؤسسية اللازمة لاقتصاد متقدم. وستكون هناك حاجة إلى مجموعة أخرى من الإصلاحات قبل أن تشهد تلك الدول عودة إلى معدلات نمو العقد المنصرم.

يختلف الأمر بالنسبة لأوروبا. فقد سمحت سنوات الفقاعة الاقتصادية لكثير من أجزاء أوروبا بتجنب نوع التغييرات الهيكلية الضرورية لوضع نظام الرفاهية الاجتماعية خاصتها على مسار مالي مستدام وإصلاح أسواق العمالة والإنتاج فيها. لقد أجبرت أزمة اليورو - التي تعتبر أزمة مصرفية وأزمة دين سيادي في الوقت نفسه - الأوروبيين على بدء مخاطبة تلك المشكلات. غير أن إتمام تلك العملية الصاخبة سوف يستغرق أعواما، لأسباب يأتي على رأسها إلزام الأوروبيين، على الأقل على المدى القصير، بقبول مستوى معيشي متدن. في تلك الحالة، يصبح انزلاق أوروبا مجددا إلى هاوية الركود أمرا حتميا.

إلا أن تفاؤلي حيال الاقتصاد الأميركي لا يستند إلى الويلات التي منيت بها دول أخرى، وإنما أيضا إلى زخم إعادة الهيكلة الذي أشهده هنا في أرض الوطن.

بعد فترة ممتدة من الإنكار والتراجع، أخيرا بدأ القطاع المالي يتقبل حقيقة أنه قد أصبح على درجة هائلة من الضخامة ومحفوفا بمخاطر جسيمة وسخيا إلى أقصى درجة في تعويضاته. وتحت ضغط من المساهمين والجهات التنظيمية، تقوم البنوك الكبرى بتقليص نشاط الإقراض فيما بينها وتقليص بنود ميزانياتها، وتخفيف حمل أنشطتها المماثلة لعمل صناديق التحوط وتقليل عدد موظفيها وخفض نسبة صافي العائد المنحى جانبا للتعويض.

«هناك كم هائل من الطاقة الفائضة، وتعتبر قيمة التعويض مرتفعة جدا»، هكذا تحدث جيمس غورمان، الرئيس التنفيذي لبنك «مورغان ستانلي»، مؤخرا لصحيفة «فاينانشيال تايمز».

لم تكن إقالة فيكرام بانديت، الرئيس التنفيذي لـ«سيتي غروب»، الأسبوع الماضي وتفضيل مصرفي تجاري أكثر تقليدية تعليقا على جهود بانديت من أجل دفع البنك المعتمد على حزم الإنقاذ مجددا إلى حالة الملاءة بقدر ما كانت تصريحا استراتيجيا من جانب مديرين خارجيين حول الاتجاه الذي يحتاج البنك للسير فيه في المستقبل. إنها مسألة وقت فقط قبل أن يلقى بريان موينيهان، الرئيس التنفيذي لـ«بنك أوف أميركا»، المصير نفسه.

وبينما قد استغرق ذلك سنوات عديدة، فقد أجبر وول ستريت في نهاية المطاف على قبول دفع حصة أكبر من ثمن سلوكه المتهور في صورة تسويات بموجب حكم محكمة تقدر بمليارات الدولارات مع الجهات التنظيمية والمساهمين والعملاء. إنني لست على درجة شديدة من السذاجة بحيث أظن أن هذه التسويات سوف تغير ثقافة وول ستريت، غير أن الألم في ما يتعلق بالخسائر المالية والوظيفية كان كافيا لكبح جماحه لفترة.

إضافة إلى ذلك، فإن وول ستريت لم يشهد آخر هذه التحديات التنظيمية. مؤخرا، تحدث العديد من الرؤساء المتسمين بالرزانة والتحفظ المعتادين بمصارف الاحتياطي الفيدرالي علانية عن الحاجة إلى «تفكيك» البنوك الكبرى، فيما اقترح المسؤول ذو النفوذ الكبير في مجلس محافظي نظام الاحتياطي الفيدرالي، دان تارولو، في ما يتعلق بتنظيم البنوك وضع سقف لكم الأموال التي يمكن أن تقرضها البنوك الكبرى خارج ودائعها المعتادة.

في واقع الأمر، لا يوجد قطاع من الاقتصاد الأميركي في حاجة ماسة لإصلاح هيكلي أكثر من قطاع الرعاية الصحية، بتكاليفه الباهظة ودخوله المتدنية. تسير تلك الإصلاحات الآن بسرعة فائقة. حتى قبل أن تدخل خطة أوباما للرعاية الطبية حيز التنفيذ، يتجه العديد من الأطباء والمستشفيات وجهات التأمين إلى تغيير الصورة التي تقدم بها خدمات الرعاية الصحية والتي تسدد بها قيمتها. وفي هذه المؤسسات الجديدة التي تقدم «رعاية معتمدة»، سوف يكون الأطباء على سجل الرواتب، وستكون السجلات الطبية إلكترونية، على نحو ييسر تنسيق الرعاية ويعزز الالتزام بالممارسات المثلى.

لقد ظل خبراء السياسة الصحية يروجون لهذه الأفكار منذ عقود، لكن حينما تتحدث إليهم هذه الأيام ينتابك شعور حقيقي بالانبهار بأنهم قد سيطروا على زمام الأمور في النهاية. تستثمر شركات كبرى مبالغ ضخمة من المال في تطوير أطقم العمل والأنظمة، بينما يطرح المستثمرون الرأسماليون في رأس مال المخاطر وشركات الأسهم الخاصة رهانات ضخمة أملا في المشاركة منذ البداية في نشاط يعتقدون أنه سيحقق نجاحا. على المدى القصير، من المتوقع أن تحقق هذه العملية زيادة في الوظائف وفي الدخل. وعلى المدى البعيد، ثمة احتمالات هائلة لتوفير المال وتحفيز الإنتاجية.

وعلى نحو يتعذر تجنبه، تأتي الإصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها لنظام التعليم الأميركي. إذا كنت تتابع الأنباء - إضراب المعلمين في شيكاغو، والضجة التي أثيرت في جامعة فيرجينيا، والسيل المستمر من الأخبار عن عبء الدين الملقى على عاتق خريجي الجامعات - فستدرك جليا أن الجدال لم يعد متعلقا بما إذا كانت المؤسسة التعليمية ستجبر على تقليل التكاليف وتحسين النتائج التعليمية. الأمر الآن ينصب حول الكيفية والتكلفة. لم يعد من المحظور الحديث عن إنتاجية الكليات ومحاسبتها، أو تقييد السداد أو الترويج بنتائج قابلة للقياس.

تعتبر المدارس شبه الحكومية الآن جزءا مقبولا من المزيج، كما أن معارضة استخدام التكنولوجيا تقل. على نحو يبهج البعض ويبث الرعب في نفوس آخرين، يتجه رأس المال الخاص للاستثمار.

بالطبع تتمثل أكبر المشكلات الهيكلية في عجز الميزانية الفيدرالية، لكن مع ذلك يحدوني التفاؤل في إمكانية الوصول لحل عما قريب. لقد تمنى الجمهوريون والديمقراطيون أن تكون انتخابات هذا العام «توضيحية» – لكن الناخبين سوف يقررون في نهاية المطاف دعم أسلوب أو آخر. لكن قبل أسبوعين من الانتخابات، يبدو أن الشيء الوحيد الذي لدى الناخبين استعداد لتوضيحه هو أنهم لا يؤيدون أسلوبا بعينه، وقد يفضلون أن يعقد كلا الطرفين تسوية.

ثمة أغلبية من الحزبين داخل مجلس الشيوخ على استعداد لقبول ذلك القرار، مع وجود مجموعة عاملة تصوغ تلك التسوية بهدوء. وفي حالة ما إذا خسر الجمهوريون بعض المقاعد في مجلس الشيوخ وعجزوا عن السيطرة على مجلس الشيوخ، مثلما هو متوقع، ربما يكون رئيس مجلس النواب، جون بوينر، من خلال دعم قوي من مجتمع العمل، مستعدا للمخاطرة بمسيرة حياته المهنية بتقديم 100 صوت جمهوري تؤيد هامش ميزانية ضخمة - هامش يجمع نحو تريليون دولار في صورة عائد إضافي خلال العقد المقبل من دون رفع معدلات الضريبة.

وتم مؤخرا اقتباس قول وزير الخارجية الأسترالي، بوب كار، الذي أشار فيه إلى أن الولايات المتحدة «كانت على بعد اتفاقية ميزانية واحدة من أجل استعادة تميزها العالمي». يبدو الأمر كذلك بالنسبة لي أيضا.

* خدمة «واشنطن بوست»