غضبة شاعر

TT

من الشعراء الذين تزدحم حياتهم وأشعارهم بالتناقضات، كان الجواهري. إنه رجل ضخم واحتوت ضخامته على التناقضات فيما احتوت عليه. ولكن من الواضح أنه على الرغم من كل ذلك، قلما حاد عن الخط التقدمي الذي رسمه لنفسه، وهو السعي للتطوير والتجديد والعصرنة، وبصورة خاصة تحرر المرأة ومساواتها. تجلى ذلك حتى في قصيدته التي دافع فيها عن الـ«مني جوب» (التنورة القصيرة) وحق الفتيات في لبسها. وكان قد اتخذ هذا الموقف منذ أيامه الأولى، عندما اشتغل موظفا صغيرا في البلاط الملكي. قررت وزارة المعارف عام 1929 فتح أول مدرسة للبنات في مدينة النجف. وشن رجال الدين حملة ضارية هناك قادها الشيخ كاظم اليزدي لمنع الوزارة من تعليم البنات. تصدى لهم أبو فرات بقصيدة طويلة نشرها بعنوان «الرجعيون»:

ستبقى طويلا هذه الأزمات

إذا لم تقصر عمرها الصدمات

ما هي الصدمات التي يقصدها الشاعر؟ لم يمض القراء بقراءة أبيات قليلة أخرى حتى اصطدموا ببيت يسوق فيه الجواهري أفظع الكلمات وأخس الصفات بحق مشايخ المدينة، كما وجدهم في عصره. ما إن نشرت جريدة «العراق» القصيدة حتى ثاروا ضد الصحيفة وصاحبها وشاعرها. وما أنا بمن يهوى الآن إيقاع «الشرق الأوسط» في مثل تلك الزوبعة التي وقعت بها صحيفة «العراق» في إعادة نشر ذلك البيت المقذع. ازداد الطين بلة عندما تصور القوم أن الملك فيصل الأول، الذي كان حريصا على إشاعة التعليم بين البنات، قد حث الشاعر على كتابة القصيدة.

اضطر الملك لاستدعاء الشاعر وتأنيبه. فقد تجاوز حده في نشر تلك القصيدة، وهو موظف في البلاط. اعتذر الجواهري عما فعل وقدم استقالته حرصا على سمعة البلاط والملك. بيد أن الملك رفض استقالته وتركه في منصبه، لكن العلاقة بين الملك الحكيم وموظفه الشاب ظلت متعكرة حتى أنهى الشاعر علاقته الرسمية بالبلاط ليتفرغ للصحافة. وكان أن بادر إلى نشر قصيدة عاطفية بث فيها لواعج شجونه وعبر فيها عن موقفه التحرري المتواصل، المتأرجح بين حب العراق إلى حد الهيام والغضب عليه وعلى مساوئه لحد الكره، فقال:

سكتّ حتى شكتني غرّ أشعاري

واليوم أنطق حرا غير مهذارِ

وقعت أنشودتي والحزن يملأها

مهابة، ونياط القلب أوتاري

في ذمة الشعر ما ألقى وأعظمُهُ

أني أغني لأصنام وأحجارِ

لو في يدي لحبست الغيث عن وطنٍ

مستسلمٍ، وقطعت السلسل الجاري

العذر يا وطنا أغليتُ قيمته

عن أن يُرى سلعة للبائع الشاري

وكيف يُسمع صوت الحق في بلد

للإفك والزور فيه ألف مزمار

ولا شك أنها كانت غضبة ثائرة على التمسك بقيم عفّى عليها الزمن، ووقفت كعقبة أمام تحرر العراق وتقدمه ولحاقه بالعصر الحديث.