المرأة والثورة

TT

في كلام مبالغ فيه إلى حد السفه، تناولته وسائل الاتصال، خاصة الحديثة والإلكترونية، من أن هناك ظاهرة واسعة الانتشار هي إقبال عدد من كبار السن في دول الخليج على الزواج من فتيات صغيرات استغلالا لظروفهن الصعبة في مناطق اللجوء السورية مثل تركيا والأردن. لاحظ المقارنة التي أريد لها أن تكون شاذة ومنفرة (رجال طاعنون في السن وفتيات صغيرات)! مثل تلك الأقوال تقع في محيط الإعلام المضاد الذي يروج عن عمد وإصرار أفكار التقليل من شأن كل من الموقف الدولي والعربي، والخليجي بالذات، لنصرة إخوان لهم في سوريا، يواجهون أبشع أشكال حروب الإفناء، فاللجوء إلى القولبة والتنميط يجعل الجمهور مصدقا للفكرة ومشمئزا منها في آن معا، كما يحط من قدر العائلات المحترمة التي اضطرت إلى اللجوء خارج وطنها، ويدفع آخرين إلى البقاء تحت الجور والعسف خوفا من العار الاجتماعي الذي قد يلحق بهم حتى من باب سد الذرائع، كما قد يدفع بالبعض من شباب الثورة إلى التشكيك في نوايا بعض المتحمسين للقضية من الدول المحيطة، ولربما مقاومة عروض المؤازرة من البعض الآخر خشية دفع الثمن الأغلى بالمقابل من كرامة وكبرياء. وهي لعبة قديمة وجائرة تلجأ إليها قوى القهر لإرهاب المواطنين، حيث يستخدم الموقف الدراماتيكي في الثقافة العربية، وهو قرن الجنس بالاستغلال البشع، لتلطيخ سمعة الغير والحط من أخلاقياته وإيهام جمهور واسع باقتران الجنس بالمال. أذكر القارئ بمثل هذا الموقف عندما لجأ رموز البعث العراقي إبان احتلال العراق للكويت ومقدماته الادعاء بأن (الماجدات) - وهو التعبير الذي كان يستخدمه النظام البعثي العراقي لتوصيف المرأة العراقية - يستغلهن الكويتيون بعشرة دنانير، وكانت أحط أشكال الدعاية الموجهة لإثارة غيرة الرجل العراقي العادي المعروف بشهامته على أفعال أناس لم يرتكبوها.

من أكثر المواقف دناءة ما يمكن أن تلجأ إليه ماكينة إعلامية في إثارة هذه النعرة، من أجل الحشد وجلب التأييد لموقفها السياسي وإكراه الآخرين للخضوع لإرادتها السياسية، ولكنها تدل - للعقلاء - على إفلاس منقطع النظير في تبرير موقف التسلط أمام جمهور واسع قد خبر أساليب إيهام الناس وتضليلهم. إن فكرة بيع أو استغلال فتيات صغيرات لاجئات مع أسرهن هربا من بطش نظام يمطرهم بوابل من القنابل من تحتهم وفوقهم، إلى أثرياء كبار السن، ومن الخليج تحديدا، يثير الكثير في فضائنا العربي، في جو ثقافي محمل بازدراء من يفعل ذلك الفعل، وخاصة إن كان صاحب مال.

هذه الهجمة الإعلامية التي تحدثت حولها بعض الأصوات لا أستبعد أن تكون على اتصال بأجهزة النظام السوري الذي يريد أن يصرف النظر عن الأرقام الهائلة للضحايا السوريين إلى السبايا السوريات كما يصفونهن، ووصل جزء من هذه البروباغندا إلى وسائل الإعلام الدولية، وهدفها دق إسفين قابل للتوسع، وهو الجمع بين الجنس والغنى المادي، وعادة ما تجد هذه النغمة من يصدقها لدى جمهور مستقطب، الحكاية أن (الجنس والغنى) يثور حولهما الكثير من ردود الفعل السلبية التي تضيف بما تحمله من (البهار)، ما يجعلها أكثر شهوة للتداول بين آخرين. إلا أن ما فات أصحاب ومصممي هذه الحملة الشرسة، هو أن يقدموا لنا دليلا على أن ما يقولونه يشكل (ظاهرة) بالفعل، أي أن ممارسته واسعة بقدر يزيد عن مجرد حوادث متفرقة هنا وهناك إن وجدت وبينة بالأدلة والبراهين، وفي عالم تسوده كل هذه الشفافية في ممارسة الإعلام، فإنه من المفترض أن منظمي تلك الحملة لا تنقصهم الأدلة المادية الملموسة، من خلال تسجيل لتلك الحالات المدعاة، وكيف تتم، ومن هم أبطالها وضحاياها. إن رسم رجال الخليج والكبار منهم في السن وكأنهم قطعان يمشون في الأرض طلبا للمتع الجنسية، إن لصقت بأذهان العامة، قد تكون حققت أهدافها الإعلامية، إلا أن عدم تقديم الأدلة عليها، مقرونا بأن للناس عقولا مبصرة وأفئدة ناقدة تستطيع أن تحكم على الضلالة وتتبين الهدى، يقلل من تأثير تلك الهجمة الإعلامية الشرسة، ليس فقط لأن الظاهرة نادرة ولكن أيضا لأن الأسر التي اضطرت للجوء لديها من الكرامة ما يمنعها من فعل القبيح وغير المقبول في مجتمعها، فقد فرت من وطنها - في جزء من الأسباب - ناجية بعرضها ولائذة بسمعة نسائها ممن أطلقهم النظام في دمشق للفتك بالأعراض وفعل القبائح المنكرة، وبالتالي ليس لديهم الاستعداد بأن يفرطوا فيما فروا به خوفا عليه، ذلك التحليل العقلي والمنطقي هو ما يكفل إفلاس الماكينة الإعلامية للنظام السوري ومناصريه، ويجعلها تفتش عن قضايا تثير الرأي العام ضد مناصري ثورة الشعب، خاصة المتحمسين لها قولا وفعلا، كما تحط من قدر وكرامة من استخار مرغما أن يخرج من بلده، حفاظا على الروح والشرف والكرامة.

في الحروب دائما ما نجد أن الضحية الأولى هي الحقيقة، وعادة ما تذهب الأنظمة الاستبدادية إلى الكذب والتفتيش عن قصص قابلة للتصديق لأول وهلة، وقد تنطلي على جمهور واسع يرغب أو مهيأ للتصديق. لقد فات هؤلاء أن مقولة غوبلز وزير إعلام أدولف هتلر، كما هي مقولة الصحاف وزير إعلام صدام حسين، أن اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، لم تعد قائمة في عصر الإنترنت الذي يرغب متابعوه في أن يشاهدوا الدليل قبل أي شيء آخر، حتى ولو اندهشوا لوهلة بغرابة الكذبة أو بهولها.

آخر الكلام:

حتى محطة الـ(بي بي سي) مع الأسف، انساقت وراء هذه الفكرة المدمرة وفتحت باباً للنقاش حولها، على غير عادة مهنية عودتنا عليها، وهي أن تتأكد عمليا أولا وبشكل ملموس من الموضوع قبل أن تتبنى الترويج له.

Twitter: Rumaihi42

إن لله عبادا يميتون الباطل بهجره