عوامة فوق الوطن

TT

في «ثرثرة فوق النيل» يتحاور أبطال نجيب محفوظ حول «اللاشيء». جمل كاملة لا علاقة لإحداها بالأخرى. مجموعة من الناس لا معنى لحياتها في النهار، ولا أهمية لحياتها في الليل. إنه أدب اللامعقول أو العبث، الذي جربه أيضا توفيق الحكيم في مسرحه. فقد كانت المرحلة مرحلة التأثر بالعبثية الغربية التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر وبلغت ذروتها أواسط القرن العشرين مع الحرب العالمية الثانية وآلامها وأوزارها جميعا. يومها خرج ألبير كامو من تجربته الإنسانية بتقسيم الفكر البشري إلى فئتين: الفكر المذعن والفكر المنتصر.

العبثيون كانوا الفكر الخائب، المستسلم لطبائع البشر في الظلم والاستبداد والقهر. لذلك غرق أبطال «الثرثرة» في اللاشيء واللامعنى «إعمار فراغ». أشخاص لا يجمع بينهم سوى العوامة التي يأتون إليها في المساء حيث يحبون كل ما هو مزيف وعابر ويندمون عليه صباح اليوم التالي. يمرون في الحياة بلا معنى، كما تمر العوامة على سطح المياه، بين آلاف العوامات.

يشبه العالم العربي عوالم قائمة في مكان واحد ولا توجد صلة بينها ولا رابط ولا تضام. جزر متقابلة لا برزخ يجمع بينها. أصوات في الهواء وأصوات في العراء. جمل منغلقة لكن غير مترابطة. استغاثات كثيرة والجواب عليها أيد ممدودة في اتجاهات أخرى. في هذا المشهد السوريالي العبثي اختتمت هدنة الأضحى في سوريا بستين غارة جوية على أهل العيد وأهل البلد. وفي الجزيرة اللبنانية المقابلة يقتل رجل الأمن الوحيد الذي استطاع القبض على متهمين في قضايا الأمن الوطني.

في الليل نأوي إلى العوامة ونحكي. نحصي عدد الغارات والقتلى واللاجئين ونرسل التحيات إلى أهل الخيام في بلدان الإمبراطورية العثمانية جميعا...

كتب الدكتور خالد الدخيل في «الحياة» أن الأخضر الإبراهيمي يمثل الجيل العربي الذي أخفق وفشل. لم يحدد أين في العالم العربي. ففي هذا ظلم لبعض الذين بنوا وأنشأوا وتحملوا مسؤولياتهم بنوع من التقديس. وفيه ظلم للذين مارسوا المسؤوليات وكأنها محاسبة يومية. والمحزن أن الكثير في حكم الدكتور الدخيل حق. لكن الإخفاق لم يكن فقط إخفاق النخب بل كان في انسياق الجماهير خلف باعة الوهم وأصحاب الحلم على السواء. الجماهير التي تصفق طويلا ثم تبكي طويلا. غرق جماعي في العبث وعالم يحكي لغة العوامات.