الطائفة السنية تنتحر

TT

علق بعض سكان الضاحية الجنوبية على ردود الفعل الهائجة التي استتبعت اغتيال اللواء وسام الحسن رئيس فرع المعلومات، ورجل المخابرات الأقوى في لبنان، يوم التاسع عشر من الشهر الحالي، بالقول إن السنة باتوا ينتقمون من أنفسهم، عندما يغضبون، وربما أنهم ينتحرون دون علم منهم بما تفعله أيديهم. وهذا قول لعله لا يجانب الصواب لو تتبعنا مسار الأحداث، على الأقل في الأيام القليلة الماضية.

ففي مهب الاحتجاج العارم الذي عبرت عنه الطائفة السنية معتبرة اغتيال الحسن ضربة موجهة لها لا للبنان أو فريق «14 آذار» برمته، كان أول رد فعل عفوي للشبان بإغلاق شوارع مناطقهم بالإطارات المشتعلة ومكبات النفايات الحديدية، ورمي الزبالة ونثرها في الشوارع. بحيث تحولت الكثير من الأحياء السنية في بيروت والشمال وحتى في الجنوب إلى مزابل ومحارق تعبق بروائح الكاوتشوك السام والمسرطن. وأغلقت المسارب والمنافذ على السكان الذين يفترض أنهم يشاركون المحتجين الحزن على الرجل، ولا يستحقون ثأرهم بهذه الطريقة المرعبة.

الاشتباكات المسلحة لمجموعات خارجة على القانون مع الجيش اللبناني التي استتبعت الاغتيال، بقيت هي الأخرى في حدود المناطق السنية من العاصمة بين قصقص وحرج بيروت والكولا، ونجح كل من حزب الله وكذلك حركة أمل في تجنيب مقاتليهما الخوض في معارك، جرت على حدود الضاحية الجنوبية، سرعان ما تبين مشاركة سوريين فيها وقلة من العناصر الفلسطينية الآتية من المخيمات، إلى جانب لبنانيين، بحسب بيان أصدره الجيش اللبناني. في طرابلس السيناريو كان مشابها، وأسفر الاحتجاج عن مقتل أكثر من عشرة أشخاص وشلت العاصمة الثانية على مشارف العيد، مما زاد من معاناتها الاقتصادية، وأزمتها المعيشية، وهو ما أصاب المدينة في مقتل. كان من المفترض، بحسب ما سمعنا، أن الغضبة هي ضد حزب الله والنظام السوري، الذي اتهم بقتل وسام الحسن، لكن التي عوقبت بالفعل هي المناطق السنية بشكل أساسي، والمتضررون الحقيقيون هم أهلها وسكانها وتجارها، ولا أحد غيرهم.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، فالذروة جاءت بمهاجمة السراي الحكومي، وهي في تركيبة النظام الطائفي اللبناني القميء، الرمز السني الأعلى الذي يتوجب الدفاع عنه من قبل الطائفة برموش العين. وللتذكير فإن المسيحيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية، بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، رفضوا بشكل قاطع مهاجمة القصر الجمهوري في بعبدا أو حتى الاعتصام أمامه، بعد استقالة رئيس الوزراء عمر كرامي، رغم أن «14 آذار» كانت تعتبر ساكن القصر الرئيس إميل لحود يومها أحد أضلاع النظام الأمني السوري في لبنان المسؤول عن الاغتيال، ويتوجب اقتلاعه. لكنّ أيا من المسيحيين لم يقبل حينها الإتيان بسابقة يسجلها له التاريخ نقطة سوداء فاحمة، لا تغتفر.

وإن كان من المقزز والمشين التحدث بهذه النبرة الطائفية، فإن الناس في لبنان اصطفوا وأكثروا من الاصطفاف والتمترس خلف طوائفهم حتى باتوا يلزمونك بالكلام عنهم كرعايا في طائفة لا كمواطنين محترمين في ظل دولة. وهذا موضوع آخر، يستحق مقالا منفردا.

وبالعودة إلى منطق الطوائف القاتل والمعيب الذي يفرض نفسه، فإن آخر تقليعات الطائفة السنية على طريقة الرجل الذي يخصي نفسه نكاية بحماته، هي مبادرة النائب طلال المرعبي بإقامة اعتصام أمام منزل رئيس الوزراء نجيب ميقاتي في طرابلس، الهدف منه ليس إسقاط الحكومة الحالية، كما قال النائب نفسه، وإنما إسقاط حزب الله. ولا يفهم أي عاقل كيف لحزب الله الموجود في الجنوب وضاحية بيروت أن يتأذى أو يقلق بسبب خيام تنصب في شمال لبنان. وإن كان لهذا الاعتصام من تأثير مباشر فهو على سكان الشارع وأهل المدينة، والعابرين في الحي وتلامذة المدارس، وليس بالتأكيد على حزب الله أو حتى الرئيس ميقاتي وعائلته المقيمة في بيروت.

بالمنطق الطائفي اللبناني فإن السنة في لبنان يعيشون حالة من الضياع والتشظي، فنواب وعناصر في تيار المستقبل يتخذون مبادرات فردية كبيرة، يقولون إنها لا تمثل التيار ولم تأتِ بالتشاور معه، كما هو الحال عند مهاجمة السراي أو الاعتصام في طرابلس. والحجة أن التيار ديمقراطي وليس حركة شمولية ديكتاتورية، لكن تنسيق الحد الأدنى أصبح مفقودا أو هكذا يشعر المراقب. وإلى جانب التيار وديمقراطيته المتزايدة هناك الشيخ أحمد الأسير في الجنوب الذي يقطع الطريق متى شاء ويفتحها متى أراد والعناصر السلفية المسلحة في الشمال كمجموعات متناثرة ومتفرقة، وأحيانا متقاتلة ومتصارعة، لا يبدو أن ثمة ما يمكن أن يوحدها. وآخر حلقات مسلسلها الدموي سقوط شيخ وإمام مسجد قتيلا عشية العيد إثر اشتباك مسلح في ما بينها.

الأمر إذن تجاوز الخوف من فتنة بين طائفتين قد تتقاتلان في أي لحظة بسبب التشنج السني - الشيعي، وبات الوضع يبشر بانقسام المقسوم، وتشظي المتشظي. والتفتت حين يصاب به وطن كما علمتنا الحروب الأهلية الملعونة، يبدأ طائفيا لكنه ينتهي بمجازر عائلية بين أصحاب الطائفة الواحدة والشارع الواحد والبيت الواحد. وإن كانت الطائفة السنية أخذت تشرع في الانتحار منذ مدة ليست بالقصيرة، فإن الطوائف الأخرى قد نكتشف أنها ليست أفضل حالا بمجرد أن ينكشف الغطاء. فوجبة الحرب الأهلية اللبنانية لا تزال ساخنة على موائد الطوائف.