الملك السعودي: إصلاح ذات البين قدرنا ومصيرنا

TT

جاء الحج هذا العام وأحوال الأمة العربية الإسلامية على هذه الصورة:

1- الأمة في (حالة احتراب) في أكثر من مكان، سواء أكان الاحتراب مسلحا دمويا، أم احترابا فكريا وإعلاميا وسياسيا، وهو وقود الاحتراب الدموي.

2- تشويه صورة الإسلام من خلال هذه الأوضاع الكريهة المنفرة.

3- اضطراب الأمن والاستقرار بسبب ذلك.

4- تعطيل التنمية والمعايش، أو انخفاض معدلات النمو والتقدم: بسبب ذلك أيضا.

5- ضياع (البوصلة) المشيرة إلى الاتجاهات الصحيحة أو زوغان الأعين عنها.

6- قلة (العقلاء) الشجعان المخلصين – في حقول السياسة والفكر والإعلام - مع شدة الحاجة إليهم. ذلك أن التاريخ والواقع يؤكدان: أن الأمم لا تخرج من أزماتها إلا بجهود عقلائها الشجعان المخلصين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.. ويمكن تلخيص هذا الدرس السياسي الحضاري في العبارة التالية وهي: «ما ندم إنسان – قط – وما ندمت أمة أبدا على موقف انبنى على العقل، وإنما تأتي الكوارث، وتعم الأزمات والظلمات، ويحدث الندم القاتل حين يغيب العقل أو يتراجع دوره، وحين تقود المواقف والمسالك طاقات أخرى: كالانفعال، والهوى، والغريزة، والغباء، والحمق».

لذا، فإن استدعاء العقل بأقصى معدلات ذكائه ورشده هو (المطلب الأول) – الآن – للأمة العربية والإسلامية.

ومما لا ريب فيه: أن الأولويات (المعقولة) التي من شأنها أن تخرج الأمة من أزماتها الخانقة، وكربها الشديد.. هذه المعقولات هي: نبذ الفتنة.. وكبت الأصوات الداعية لها.. والاستعصاء القوي على إغراءات الأعداء بتوسيع نطاقها.. وإحلال الحوار محل الملاكمة والمناطحة والتشنج.. والالتقاء الصدوق على (المشتركات الجامعة) التي لا يحل لمسلم أن ينازع فيها، أو يتفلت منها.. والمثال القريب – زمنا ومعنى – هو: المعاني العميقة في الحج. فلو عقل المسلمون حجهم هذا لرجعوا منه بدروس تخرجهم من أزماتهم وكروبهم التي مزقتهم شر ممزق، وجعلتهم أضحوكة العالم، وشوهت صورة دينهم.. ومن هذه المعاني المفرجة للكرب، المحفزة على وحدة الكلمة والاتجاه:

أ- أن المسلمين في الحج اتحدوا على توحيد الله عز وجل وعلى تعظيمه وتمجيده (لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك). فما من مسلم حاج إلا رفع صوته بهذا الهتاف القوي الواضح الكريم، حتى ليبدو للسامع أنه (صوت واحد) يهتف بهتاف واحد، وليست أصواتا متعددة صدرت عما يقرب من أربعة ملايين مسلم.

ب- في مكة المكرمة تنزلت آيات (وحدة المسلمين) المقترنة بعبادة الله وتقواه: تنزلت آية: «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ».. وتنزلت آية: «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ».. والآيتان مكيتان: نزلتا حيث يؤدي الحجاج مناسكهم ومشاعرهم.

ج- في حجة الوداع، وقف نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم – على عرفة وخطب في الناس خطبته الجامعة المودعة.. ومما جاء في خطبته الشريفة: «أَلاَ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».

ويسرنا – ها هنا - أن أَلْقَى العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز كلمة في وفود الحجيج استلهمت هذه المعاني من جهة، ولبت (حاجة الأمة إلى العقل) من جهة أخرى.. قال الملك عبد الله: «إننا في أشد الحاجة إلى تضامن حقيقي يحفظ وحدة الأمة ويحميها من التجزئة والانقسام ويصون الدماء التي حرمها الله.. وإني أدعو ولاة أمر المسلمين أن يتقوا الله في أوطانهم وشعوبهم، وأن يستشعروا ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم. فنحن مسؤولون أمام الله تجاه شعوبنا وأمتنا، فلا نهضة ولا تقدم إلا بالرخاء والأمن.. ونحن بأمس الحاجة إلى حوار أمتنا مع نفسها، حوار يؤدي إلى نبذ دواعي الفرقة والجهل والغلو والظلم التي تشكل تهديدا لآمال المسلمين».

وننتقل من معاني الحج إلى (الحاجة إلى العقل) في أمة غاب عقلها فعملت عمل المجانين «!!!!» فباءت بخيبة مركبة: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ».. وأسوأ السوء غياب العقل، وتعطيل وظيفته.

وحين تنطفئ جذوة العقل تحتاج الأمة إلى ما يشبه (الصدمة الكهربائية) التي توقظ العقل كما يقول بول كيندي في كتابه (الاستعداد للمستقبل).

والصدمة الموقظة هي: ما تعود عليه الملك عبد الله بن عبد العزيز حين يغشى الأمة ما يغشاها من نعاس فكري، ونوم عقلي وتحجر سياسي مثلا: في قمة الكويت عام 2009. استعمل العاهل السعودي أسلوب (الصدمة الموقظة) في خطابه المشهور من حيث إن الجميع لم يتوقعه، بمعنى أن الخطاب – مضمونا ووضوحا وهدفا وتوقيتا – كان مفاجئا.. كان مفاجئا للمتعجلين في (نعي) الدور السعودي: العربي والإقليمي والإسلامي.. وكان الخطاب صدمة عقلية مفاجئة للقادة العرب المجتمعين في قمة الكويت: صدمة تبدت في (النقد الذاتي) المباشر لهؤلاء القادة، إذ قال الملك لهم – وجها لوجه: «يجب أن أكون صريحا صادقا مع نفسي ومعكم فأقول: إن خلافاتنا السياسية أدت إلى فرقتنا وانقساماتنا وشتات أمرنا، وما زالت هذه الخلافات عونا للعدو الإسرائيلي الغادر، ولكل من يريد شق الصف العربي لتحقيق أهدافه الإقليمية على حساب وحدتنا وعزتنا وآمالنا. إننا، قادة الأمة العربية، مسؤولون جميعا عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا، وعن الضعف الذي هدد تضامننا. أقول هذا ولا أستثني أحدا منا».

ولطرح الملك عبد الله بن عبد العزيز – السابق واللاحق – مضامين عميقة ينبغي تركيز الضوء عليها، ولا سيما في ساعة العسرة التي تعيشها الأمة اليوم:

1- مضمون (اليقظة في زمن الغفلة) فهو كلام عاقل في زمن الجنون، وكلام مسؤول في زمن الاستهتار، وكلام ضمير في زمن فقدان الضمير، وكلام وحدة في زمن (التفتيت).

2- مضمون: أن الإطفائي يزداد مسؤولية ورهقا حين يكون هناك مرضى يلتذون بمشاهد الحرائق وهي تزداد سعيرا، ويتمتعون بتزويدها بالوقود كلما انطفأت أو كادت، لكن هذه النزعات المريضة لا تدفع الإطفائي النزيه الصدوق ذا الحس الإنساني النبيل والنشط، لا تدفعه، إلى الفتور لأن مهمته الجليلة تقوم على ثلاثة أركان وهي: العقل والضمير والمصلحة، إذ ليس من المعقول ولا الضمير ولا المصلحة ترك الحرائق تستعر وتزداد ضراما واتساعا وتتخطى الأتون: إلى من حولها وما حولها.. كل ذلك يقتضي مواصلة حمل مسؤوليات إطفاء الحرائق في الأمة وإصلاح ذات البين مهما كانت الأعباء ثقيلة، ولنسجل – من جديد – تعبير الملك عبد الله نفسه حيث قال: «إن ما تبذله المملكة من إصلاح ذات البين هو واجب ومسؤولية وهذا قدرنا ومصيرنا ولا سبيل لنا إلا أن نواصل مسؤولياتنا تجاه أشقائنا وأمتنا لأننا ندرك أن التواني عن ذلك سيؤدي إلى أوضاع لا تسر. وإذا كانت خدمة الأمة تنافسا، فليتنافس المتنافسون في ذلك».

معنى قول الملك السعودي: «أن إصلاح ذات البين قدرنا ومصيرنا»؟.. وما أسانيد ذلك؟

أ- إن من أعظم مسؤوليات الملك السعودي: الولاية على الحرمين الشريفين ولذلك لقب بـ(خادم الحرمين الشريفين).. وهذه مسؤولية تجمع ولا تفرق، وتوحد ولا تشتت. فالحرمان الشريفان مفتوحان للمسلمين كافة دون تفرقة ولا نبذ، وخادم الحرمين الشريفين هو الذي يمكن المسلمين أجمعين من ذلك ويشرف عليه، ولا يسمح بتجاوزه.

ب- إن من أبرز مضامين الحج: الحفز على الائتلاف والاتحاد والاجتماع: في الشكل والمضمون.. لقد حج مسلمون منذ أيام.. وهم مسلمون يحملون 190 جنسية من قارات الأرض كلها.. هذه الجنسيات لبست لباسا واحدا هو (الإحرام)، وهتفت بهتاف واحد، وطافت حول بيت الله الحرام، ووقفت – مجتمعة – على صعيد عرفة في توقيت واحد.

ج- إن السعودية هي (رائدة) التضامن الإسلامي في العصر الحديث: دعوة وتنظيما ودعما سياسيا وماليا، وهذا التضامن هو أول تجمع إسلامي عالمي بعد سقوط الخلافة.

د- الالتزام بالنص الدستوري. فقد نصت المادة (25) من النظام الأساسي للحكم في السعودية على أن «تحرص الدولة على تحقيق آمال الأمة العربية والإسلامية في التضامن وتوحيد الكلمة».

هذا هو معنى قول العاهل السعودي: «إن إصلاح ذات البين هو قدرنا ومصيرنا».