المستبد العادل أم صرامة القانون؟

TT

قبل أيام تساءل الزميل مشاري الذايدي عن خيبة أمل أمم أسقطت حكامها ولم تغير أنظمتها، ولم تفتح طاقات «الثورة» (مع التحفظ على التعريف) نوافذ تنوير في أذهان أبنائها وبناتها، بل استبدلت بديكتاتورية الفرد ديكتاتورية الفكر أو الجماعة الأعلى صوتا والأشد عنفا، أو تراجعت من عصر نشاط طموح الالتحاق بالحضارة الإنسانية إلى ظلام القرون الوسطى، ناهيك عن الفوضى العارمة وانهيار الاقتصاد. أحاول هنا فحص تساؤل الذايدي عن شبه استحالة الإصلاح والشروع في التنمية داخل إطار «الديمقراطية» (مع التحفظ على التعريف لخلط المثقفين العرب بين الانتخابات والديمقراطية. فانتخاب رئيس أو برلمان لا يعني الانتقال للديمقراطية كنظام شامل وممارسة أساسها حرية الفرد المطلقة في الاختيار بلا قيود تفرضها الأغلبية مهما كان نبل العقائد التي تبرر القيود).

بريطانيا أعرق الديمقراطيات وأكثرها نضجا تتعرقل فيها مشاريع الإصلاح السياسي والتنموي الاقتصادي نتيجة تغلغل الديمقراطية في جذور المجتمع وتحريك ممارساتها لكل مفصليات ومؤسسات المجتمع.. سواء كان إعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية أو إنشاء ممر ثالث في مطار هيثرو، أكثر مطارات العالم ازدحاما، أو مد خط سكة حديدية سريع.

المشاريع كلها معرقلة منذ سنوات على يد لجان استشارات ودراسات، ولجوء الأطراف المتناقضة المصالح للمحاكم أو إرغامها ممثليها البرلمانيين على التصويت بالرفض.

وإذا كان هذا حال أنضج الديمقراطيات، فما بالك بمجتمعات لا تسمح حتى للفرد باختيار معتقداته وملبسه وطعامه وما يقرأ من كتب وترفض التوقيع على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان؟! طرح الذايدي فكرة الإمام محمد عبده شيخ تنوير القرن الـ19 عن «المستبد العادل».

سأناقش نموذجين هما الاستثناء من القاعدة عندما نجح استبداد سنوات قليلة في بناء الأمة الدولة الحديثة فالمجتمع الدستوري الديمقراطي. محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة بدأ حكمه بالاستبداد بمذبحة المماليك، والقضاء على مشايخ أداروا إقطاعياتهم كزعماء العصابات. كان هذا كتكتيك محسوبا ضمن استراتيجية طويلة المدى. بنى الاقتصاد والمجتمع والجيش، والدولة ونهضة التعليم، التي أثمرت في سنوات قليلة جيلا من علماء الأزهر، ومعلمي المدارس بأفق متسع وخيال واسع ومرونة ذهنية قادرة على استيعاب الجديد. وكان منهم محمد عبده الذي نزع خرافة تحريم الفن من عقول الناس خاصة أئمة المساجد الريفية الصغيرة ومشايخ كتاتيب تعليم القرآن، حيث الأمية هي القاعدة والقدرة على الكتابة والقراءة هي الاستثناء.

كان جيل رواد الفن من خريجي الأزهر مثل أبو المسرح المصري الشيخ سلامة حجازي، وأثمرت النهضة الجامعة الأهلية فثورة 1919 فدستور 1923 السابق لعصره فأعظم ديمقراطية برلمانية شهدتها مصر في 7000 عام حتى وأدها عسكر انقلاب 1952.

النموذج الثاني مصطفى كمال أتاتورك، ولم يكن ديمقراطيا أو ليبراليا، لكنه، كمحمد علي وأولاده، فرض حكم القانون وغرس احترامه في النفوس وظهرت المؤسسات فالمجتمع المدني واستثمارات وأعمال واقتصاد تصنيع وضرائب، فتمثيل برلماني وتضارب بين مصالح فأحزاب تعبر عنها وتتنافس في البرلمان للتوصل إلى صيغة توافقية تضمن مصلحة الأمة.. طريق يبدأ بحكم القانون يوصل تلقائيا إلى الديمقراطية.

تعبير «المستبد العادل» oxymoron، أي متناقض مع ذاته، وغالبا لم يقصد محمد عبده الحاكم كشخص بل استبداد النظام في تطبيق القانون الصارم بلا استثناءات، أي بعدالة fairness، وتثبيت دخل مادي لرفع مستوى معيشة وكلاء تطبيق القانون كرجال الأمن ومحققي النيابة (مرتب القاضي أو كيل النيابة في بريطانيا أعلى من مرتب رئيس الوزراء). مقترحات جاءت في كتاب نصائح الحاكم الصالح لولده في عهد الأسرة الثانية المصرية منذ خمسة آلاف عام. ومقارنة حجم اقتصاد المجتمع وتعقيداته، وعدد السكان، ومؤسسات المجتمع المدني في مصر 1805 أو تركيا بعد الحرب العالمية الأولى مع مجتمعات اليوم، ناهيك عن ثورة الاتصالات ووسائل المعرفة والصحافة، تجعل ظهور حاكم بصلاحيات استبدادية مطلقة كمحمد علي باشا أو أتاتورك خارج نطاق المعقول.

المطلوب تفعيل حكم القانون بعدل يتساوى الجميع أمامه fairness وباستقلال القضاء.

كل الانتفاضات وشبه الثورات كانت في بلدان الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية، ومن هم دون الـ60 لم يختبروا مجتمع حكم القانون. هناك حكاية معروفة عن وصول الملك فاروق إلى مناسبة عامة وتعطل مقبض باب كابينة الشوفير فلم يستطع النزول لفتح باب المقصورة للملك، ورفض ضابط الحرس الملكي برتبة يوزباشي - كابتن - فتح الباب رغم أمر لواء الحرس، الذي اضطر إلى أمر أحد الحراس بفتح باب السيارة. كبير الياوران (مدير المراسم في القصر) رفض طلب قائد الحرس بالتحقيق مع الضابط الشاب الذي أصر على أن مهمته تأمين سلامة الملك وليس فتح باب السيارة. وقال كبير الياوران إن الملك فخور باعتزاز الضابط المصري بكرامته وحرصه على تأدية الواجب في حدود مواصفات المنصب بلا مجاملات. خذ مثلا تغطية الصحافة المصرية في الستينات لواقعة رواها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر عن تحرير عسكري أمن مخالفة له مساء 22 يوليو (تموز) 1952 وهو في طريقه إلى لقاء شركائه في مؤامرة الانقلاب. كان أحد مصابيح سيارة عبد الناصر لا يعمل، فأوقف شرطي بسيط ضابطا برتبة كولونيل (بكباشي) وأنزله من السيارة وحرر مخالفة، وكاد يصادرها لولا اعتذارات وتوسلات الكولونيل. لم يطرح الصحافيون المصريون عند نشر الحكاية في منتصف الستينات نقاشا عن علاقة الأمن بالمواطنين قبل انقلاب 1952 ومدى احترام كل شرائح وطبقات المجتمع المصري للأمن جهازا وأفرادا كانوا يتجاهلون مكانة الشخص أو رتبته العسكرية عند تطبيق القانون.

كان هم عسكري دورية شارع قصر النيل تأمين منطقته ضد حوادث المرور بالتأكد من مطابقة السيارة وطريقة تشغيلها للوائح المرور وهدفها السلامة العامة.

ركز الصحافيون المصريون على «عسكري الدورية الذي كاد يغير تاريخ مصر إذا أصر على موقفه وصادر السيارة أو اصطحب البكباشي عبد الناصر على قسم الشرطة»، وربما كان فعل لو عرف أن الكولونيل يتآمر على الشرعية الدستورية للقيام بانقلاب غير قانوني. ويبدو أنه لا يوجد بين أجيال المثقفين المصريين والعرب من يعي بحكمة تأدية شرطي الدورية لمهامه بأمانة، تجعله لا يخشى من تطبيق القانون على رتبة عسكرية تفوق رتبته إحدى عشرة مرة، بل يختزلون أمانة الشرطي المطلقة إلى مصادفة «كادت تغير مسار التاريخ».

ولذا تصبح مسألة فرض القانون العادل بتساو على الجميع (كبديل معاصر وممكن لفكرة المستبد العادل) غير واردة.. أي لا توجد تربة تنمو فيها بذور الديمقراطية كما حدث في تجربتي محمد علي باشا وأتاتورك.