«نمسي على أزمة ونصبح على أزمة»

TT

العنوان السابق ليس لي، إنه بعض من خطاب مؤثر لسمو أمير الكويت في التاسع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وقد كان ذلك الخطاب شاملا لكثير من القضايا الوطنية، معبأ بمضامين تحمل الكثير من التنبيه لما هو قادم لكل منصت لما بين سطور كلماته، إلا أنه في يوم الأحد قبل الماضي، وربما الأحد بعد غد، وما بينهما من أيام، شهدت وتشهد الكويت حراكا سياسيا في الشارع لم تشهد له مثيلا في السابق، وهو حراك يدمي قلوب الكويتيين، ليس بسبب اختلاف وجهات النظر حول مسائل وطنية عاجلة، فذلك الاختلاف عادة يقوم على إيجابية الحوار وأدبه في تاريخ الكويت السياسي الحديث، كما أن الحراك الجديد ليس على مسائل خاصة بعدد الأصوات التي يسمح للمواطن بأن يدلي بها، فذلك هو الظاهر والذريعة ليس إلا، الذي اتخذ البعض شعارا له في انقسام غير مسبوق بين تيارين في المجتمع، تيار «سوف نشارك»، وتيار «لن نشارك»، أي المشاركة في العملية الانتخابية المقبلة، ترشيحا وانتخابا، التي حدد لها مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل. في تقديري، إن الأمر أعمق من ذلك بكثير، وهو رأي ربما تبنته أغلبية صامتة، حتى الآن لم تستطع أن تقنع أيا من الفريقين بحجية طروحتها، المشارك والمقاطع على حد سواء.

الأخطر أن يتحول الصراع في الشارع إلى شيء من العنف، لم تتعوده أو تألفه الكويت في السابق، وقد يجر ذلك إلى تداعيات لا يستطيع أحد الآن أن يتنبأ بها. الخلاف غير مدروس ويتسع، ويتحول تدريجيا من خلاف سياسي إلى المس بالأشخاص والثوابت، يزيده حرارة وربما شططا ما يتداوله البعض من سقط القول في وسائل الاتصال الحديثة المغفلة من الأسماء.

ما تحتاجه الكويت هو نقلة نوعية، مختلفة تماما عما كان يقدم من حلول متفرقة في السابق، فقد تراكمت الأزمات حتى غدت كرة ثلج كلما تدحرجت كبرت. قلت في هذا المكان قبل أسابيع إن الكويت تحتاج عاجلا إلى حزمة إصلاحات سريعة ومتكاملة تقوم بها الدولة - بصرف النظر عن توجهات جماعات الضغط الصغيرة والنافذة في أي جانب كانت - منها على سبيل المثال: السماح للجماعات السياسية بالعمل على قاعدة نظام قانوني حديث، يخرج المجتمع من التقوقع السابق الذي أصبح الاصطفاف فيه على خلفية، إما عشائرية أو طائفية، إلى رحاب العمل السياسي والمنظم والمسؤول. لقد تغير المجتمع عما كان، وذلك أمر طبيعي، ومن يلتقي منا من هم على مقاعد التعليم والجيل الجديد، جيل الـ«تويتر»، يعرف أن هناك مياها كثيرة وغزيرة قد عبرت في المجتمع، وأنتجت جيلا مختلفا في التطلعات وفي الآمال وفي التوقعات، وحتى في التصور للمجتمع المنشود. الترياق هو إنشاء مؤسسات حديثة، وإتاحة الفرصة لها أن تعمل.

من هنا، فإن العامل الآخر هو التفكير في خفض سن الناخب الكويتي إلى الثمانية عشر عاما بدلا مما هو عليه اليوم؛ أي سن الحادي والعشرين. من المهم أيضا النظر بجدية لإصلاح المواطنة، على أن يكون الجميع متمتعا بالحقوق ومتحملا للواجبات دون تفرقة ظاهرة أو باطنة، وعدد من الإجراءات المؤسسية السريعة في تغيير البناء البيروقراطي الذي أثقلته، إلى حد الشلل، الممارسات الشخصانية يعطل عمل الأفراد والجماعات، ويقعد إلى حد السفه عمل الدولة. ذلك بعض ما يتوجب القيام به سريعا، وربما دعوة إلى مؤتمر وطني عام يضم من أهل الخبرة والرأي ما يمكن أن يقدم من خلاله خريطة طريق لكويت المستقبل، على أن يتضمن في تشكيلته ثقلا من الشباب والجيل الجديد، الذي يمكن فتح آفاق المشاركة معه وله ليحقق ما يصبو إليه.

من المهم تذكير القارئ أن «النقلة النوعية» المطلوبة في الكويت، ليست جديدة، قد تحدث عنها المرحوم الشيخ جابر الأحمد في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وقتها كانت الأرض العربية تموج بمجموعة متغيرات مؤثرة، عرف - رحمه الله - ببصيرته الثاقبة، أن البلاد تحتاج إلى ما سماه وقتها «النقلة النوعية». لم تمهل الظروف التي عصفت بالكويت عام 1990 من احتلال وتحرير، ثم بناء جديد، لم تمهل الأحداث تلك النقلة النوعية المرجوة أن تبدأ، فقد تراكمت أحداث عقد التسعينات إلى درجة أفقدت الجميع النظر إلى المستقبل بعيدا عن التكسب السياسي الآني والاستفادة الشخصية التي نشرت الفساد، ودخلت شرائح المجتمع في صراع عبثي، قاد في النهاية إلى ما نحن فيه من اضطراب اليوم.

الصورة النموذجية السائدة في المجتمع الكويتي اليوم، هي التقوقع خلف متاريس الشعارات والتنازع ذي المظهر السياسي، وهذا عمل قصير النظر، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان، بل إن البعض خرج مع الأسف ليجلب للكويت نزاعات جديدة من الجيران عن سوء طوية أو حسن نية...لا فرق في النتيجة!

التحولات الاجتماعية العميقة ليست خاصة بالكويت فقط، فأينما ذهب بصرك في منطقة الشرق الأوسط وفي الخليج سوف تجد أن أشكالا من النزاع قائمة، وحتى الآن لم تستقر، وهي في حالة سيولة شديدة. بعض البلاد العربية غيرت دساتيرها أو هي في حال التغيير، وبعضها دخل في حرب شبه أهلية ونزاع دموي، وبعضها غير الحكومات في غضون أشهر بأربع أو خمس حكومات. فالمرحلة مرحلة فوضى وعنف، وقدرة المجتمع على الخروج منه بأقل الأضرار هو ما يحسب في صالح قيادات تلك المجتمعات الرسمية والشعبية. لذلك، فإن التفكير المنطقي هو ربط النتائج بالأسباب التي أدت إليها. وخصوصية المجتمع الكويتي هي أنه ليس هناك من أحد في أي من الأطراف السياسية المتنازعة من يريد تغيير النظام - تلك قضية محسومة من الجميع، كما أنها قضية يمكن أن يبنى عليها من خلال تفكير علمي لتغيير الآليات، وهي ليست خاصة بالمجال السياسي، بل إنها أولا في المجال التنفيذي والإداري من خلال خطط واضحة وعملية وواقعية. ولا تنقص الكويت الدراسات، فهي - كما يعلم كثيرون - متوافرة بل وفائضة، ما ينقص هو التصميم على التنفيذ من خلال آليات لا تخضع للصدف ولا للأهواء ولا للتكسب السياسي الذي استشرى إلى حد المرض، وتؤكد الجوهري والعام العاجل من حاجات الناس.

الحماس الأعمى للمشاعر يؤدي إلى الانقياد العاطفي غير السوي، وقد يكون هذا الانقياد متعارضا مع المصلحة العامة ويفسد ما هو موجود على أمل الحصول على الأحسن المتخيل، لكن تجارب الشعوب كثيرا ما وصلت إلى حقيقة أن المتخيل مجرد سراب.

ليس سهلا توصيف ما يحدث في الكويت، ولا من المتوقع أن يقبل البعض في الأطراف المتباعدة صوتا للعقل أو قريبا منه، وتلك سمة ثقافية عربية سلبية، أصلها الحكم المسبق على الأمور والمواقف، إلا أن الرائد لا يكذب أهله.

آخر الكلام:

التعصب - للرأي أو الفكرة - سلوك متعلم وليس فطريا، يأخذ شكل حالة لا شعورية جارفة ويؤدي إلى حالة من التصلب الفكري والجمود العقائدي، وقد يؤدي في بعض الأوقات إلى هدم الهيكل على المصلين!