وداعا أحمد يوسف زينل

TT

الرجال الكبار يصعب تعويضهم، ولا تعرف هذه المسألة بوضوح إلا برحيل أحدهم. وهذا تماما هو الإحساس الذي يغلب على كل من تلقى خبر رحيل الشيخ أحمد يوسف زينل، الوجيه الاجتماعي المعروف وقطب التجارة الكبير وسليل إحدى أعرق أسر مدينة جدة، عن عمر يزيد على المائة عام.

كان الراحل أيقونة المجالس، ويتصدرها بامتياز، وله من المكانة والقدر والتبجيل والمحبة في النفوس والقلوب ما جعل الجميع، الصغير والكبير، يدركون ذلك.

رحل رجل من عينة نادرة من الرجال، عينة أوشكت على الانقراض. كان الفقيد ينتمي إلى عائلة متمرسة في العمل التجاري، منفتحة على ثقافات العالم وتنهل من علومه، وهي المسألة التي كانت عنصرا أساسيا وحيويا في اهتمام الأسرة بمنظومة تعليمية كاملة انتشرت كمدارس تحت اسم «الفلاح» في جدة ومكة والبحرين والهند، وكأنها كانت علامة امتياز تجاري علمي سابقة لوقتها بكثير. كل ذلك وأكثر كان لا بد أن يترك أثرا مهما وبصمة شخصية على طبيعة الرجل وأخلاقه، وقد كان. فالرجل كان دائم الابتسامة، في حال إيجابي مستمر، وبتفاؤل لا ينقطع، مع أدب جم وعلم عميق وقدرة استثنائية على التواصل والتفاهم مع كل الطبقات وكل الأجيال بشكل مدهش.

كانت لديه راحة نفس وثقة في الذات بألا يتغير في عاداته ولا طباعه ولا أسلوبه، سواء كان جليسا لعلية القوم أو مع أطفال صغار، فكان لا يتغير ولا يتبدل. وكان ملما بثقافات كثيرة، ويتحدث بطلاقه مبهرة أكثر من ثلاث لغات، ولديه إيمان عظيم بالعلم والتعلم، وكان يوصي بأن تكون أوجه الصرف الخيري في هذا المجال بشكل رئيسي، لكنه كان لا يبخل على أوجه الخير بكل صوره، سواء بإعمار المساجد أو بإفطار الصائمين (كان يوميا يفطر ما لا يقل عن مائتي صائم خلال شهر رمضان من كل عام)، وكان يكفل الأيتام ويسهم في علاج العشرات من المحتاجين بالإضافة إلى المئات من الحالات العاجلة والطارئة.

كان حريصا على أن يكون عنصر خير للتواصل بين أسر جدة وبيوتها، وحريصا على أن يكون «فاعل خير»، ويُقصد لحل الخلافات أو أخذ رأيه ومشورته في مختلف المسائل وشتى القضايا.

أنجب الفقيد رجالا ووجهاء يحملون في دمائهم دماثة خلقه وحسن أدبه وتواضعه وإرثه الشخصي الجميل، وسيكونون على حرص عظيم على أن يحافظوا على ذلك الأمر وبشكل دقيق. وهو كان أيقونة الحضور الاجتماعي والاقتصادي، وكان سفير الخير وواجهة مشرفة ومصدر فخر واعتزاز لكل من عرفه وتعرف عليه عن قرب.

شخصيا كانت لي معه بعض المواقف الآسرة، وفي كل موقف كان يترك عندي انطباعا استثنائيا أدرك فيه معنى جديدا لمفهوم معادن الرجال. ففي أحد المواقف التي أتذكرها عنه أنني قابلته صدفة في بيته في منطقة أبحر على شاطئ البحر الأحمر بجدة، وكان يرتدي زيا رياضيا، وقال لي «هيا قم معي لنتمشى على شاطئ البحر الأحمر»، وبدأ يسترجع بعض المواقف مع صديقه الراحل جدي حسين شبكشي، وكنت في حالة من الدهشة للياقته الذهنية وتذكره تفاصيل دقيقة عن ماض قديم. والذي ترك عندي انطباعا أهم هو رشاقة كلماته وروحه المرحة وابتسامته التي لم تفارقه طوال سرده للقصة تلو الأخرى، وعلمني درسا «سريعا» هو أن كوننا نكبر في العمر فذلك مسألة حتمية ولا فرار منها، لكن أن تشيخ روحنا فهو قرار نملكه وحدنا، وهي مسألة كان الفقيد رحمه الله تعالى يعيشها ويطبقها بشكل حرفي.

سيفقد محبو الشيخ أحمد يوسف زينل طلته وحضوره، وهو الذي كان في أيامه الأخيرة يصارع المرض، وكان لا يأتي ذكره إلا بالدعاء له بالشفاء وطول العمر، واليوم لن يأتي ذكر الراحل إلا والابتسامة على محيا من يذكره داعيا له بالرحمة والمغفرة والجنة.

اللهم ارحم عبدك أحمد زينل، وأسكنه فسيح جناتك، واغفر له ذنوبه، وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.. و«إنا لله وإنا إليه راجعون».

[email protected]