في الشعر والأثاث

TT

يعرِّف أحد أدباء لبنان بنفسه «شاعرا». أي شاعرا حديثا. وكلما قرأت شعره المقسَّم إلى سطور طويلة وقصيرة ومتدحرجة على السطر، ثم مسنودة ببضع علامات استفهام ورزمة من علامات التعجب – يعصي عليَّ العثور على الشعر فيها. يحدث النقيض تماما عندما أقرأ نثره، أحيانا في المكان نفسه، ففيه موسيقى وفيه إيقاع وفيه جماليات، ولو خلا من القافية وتحرر من الأوزان.

لم يطب لي الشعر الحديث إلا عندما قرأته نثرا. وقد ادعاه الرهط كما ادعى الشعر الكلاسيكي النظامون وحافظو العروض. ويبدو أن الشعر عصر لا أفراد. في الجاهلية وفي الأمويين وفي العباسيين كان لكل سرب من الشعراء لغته وإيقاعه. وجاء عصر شوقي فحافظ على كل ما سبق مع تحديث على كيفية الشعر وروحه. فحضر النيل وغابت البيداء، وظهرت السياسة وغاب سيف الدولة، وغابت ليلى وبان الليل الطويل ومواويله وآهاته.

لكن المبنى الشعري ظل واحدا، يبدع في جماله البعض ويحوله البعض الآخر إلى خموش. وعاش عصر شوقي، إذا صحت التسمية، حتى الخمسينات، عندما بدأ عصر نزار قباني. وكان أبرع من خلط الحداثة بالعراقة، وتخفف من الأوزان الثقيلة محافظا على الجرس الموسيقي والنغم الشعري ولطائف القوافي. وتخلى عن الإرغامية وشد الشعر من شعره بمفردة مضحكة، من أجل استكمال القوافي.

كم هم شعراء اليوم؟ وماذا حدث؟ هل انقضت الأزمان التي يولد فيها الشعراء أسرابا وتنويعات، ولو في مدرسة واحدة؟ هل كان نزار نهاية العصر الذي بدأ مع شوقي وازدهر مع شعراء الرمزية في لبنان، متأثرين بالفرنسيين، ثم تحول تماما إلى الحداثة مع حركة «شعر» ورموزها المتأثرين بالشعر الأنجلو - سكسوني الذي كان مجهولا من قبل، بالإضافة إلى تأثر لاحق بالشعر اللاتيني، وفي مقدمته خورخي بورخيس وبابلو نيرودا؟

كان الشاعر في «عصور» الشعر هو المعبر عن كل شيء في حياتنا: الحب والهجر والصَّد والترحال والحرب والأطلال والركب والنزاعات والأنساب والاعتزاز والحكمة وكل شيء آخر. ويبدو أن الشاعر أعطى كل هذه الأدوار في هذا الزمان إلى الروائي، ينقل زمنه وأيامه ومجلس عبلة وعنترة على مقعد خشبي عند النيل. ولا يبرق ثغرها كلامع سيوفه، بل يبحثان معا المسألة الداهمة: أثاث الشقة من عند البسطاويسي.