الحكّاء الشعبي وعمليات التخريب في مصر

TT

قبل اختراع الراديو والتلفزيون، وبقية المخترعات التي ترفع ضغط الإنسان عند السماع والمشاهدة، وبالتحديد في منتصف القرن التاسع عشر، أعظم القرون في حياة المصريين، كان هناك الحكّاء الشعبي الذي يحكي السير الشعبية لرواد المقاهي والموالد وغيرها من المناسبات الاجتماعية. وفي كتابه العبقري «المصريون المحدثون.. عاداتهم وتقاليدهم» قدّرهم إدوارد لين بخمسين متحدثا، ومنهم البيبرسيون الذين يحكون قصة الظاهر بيبرس المملوك حاكم مصر، باعتباره بطلا تاريخيا هزم التتار ونهض بمصر نهضة كبرى. طبعا أحداث القصة تتغير في مشاهد عديدة تحت تأثير الواقع المعيش للحكاء، فتراه يحكي عن أحداث معاصرة له ولجمهوره، بعد أن يلبس هذه الأحداث رداء القدم وكأنها حدثت بالفعل أيام الظاهر بيبرس. كان بيبرس قويا واسع الخيال والحيلة، قادرا على الانتصار على خصومه وخصوم الدولة في جولات سريعة حاسمة. خصم واحد فقط أتعبه هو القاضي جوان، الذي لم يكن يلجأ للمواجهة في معارك واضحة، بل كان يجيد فقط عمليات التخريب. وهو يقوم بعمليات التخريب هذه لحساب أمير جنوا. هكذا ترى أن فكرة (الغرب) الذي يرسل بعملائه لتخريب مصر، ليست جديدة تماما، بل ربما كانت أقدم بكثير من الحروب الصليبية، وهو ما جعل المصري يقول لقرون طويلة «مفيش حاجة تيجي من الغرب، تسر القلب». المهم، أقام بيبرس سوقا جديدة كبيرة في القاهرة، ربما كان أعظم ما عرفته مصر من أسواق، غير أن القاضي جوان بواسطة عملائه أشعل النار في السوق فاحترق كله وتحول إلى رماد. هذا مثال على أنواع التخريب التي يمكن لجوان أن يلجأ إليها، ولو أن سوق ليبيا في مدينة مرسى مطروح على حدود مصر، احترق بكامله في عهد بيبرس، لهمس لنفسه على الفور: إنه القاضي جوان.

ولكنه على الأرجح لم يكن ليفكر في جنوا وأميرها، بل كان سيفكر في نظام شرق أوسطى متطرف يهوى الدمار والتخريب. وحادثة أخرى تدل على أن الحكاء الشعبي القديم كان على وعي كبير بأساليب العمل السري وعناصر الأمن القومي. حوادث سرقات كثيرة في الإسكندرية لتجار معروفين، وعمليات خطف أطفال، ويبذل أمن إسكندرية كل جهده لمعرفة الفاعل غير أنه يفشل في ذلك. فكان لا بد أن يرفع الأمر لبيبرس في القاهرة، فقرر أن ينزل بنفسه إلى الإسكندرية. الواقع أن جوان كان قد هبط إلى الإسكندرية ومعه فرقة قوامها عشرون شخصا من (العياق) واستأجر لهم أحد الأشخاص بيتا أقاموا فيه ثم تفرغوا لعمليات الخطف والنهب والسرقة لكي يشعروا كل سكان الإسكندرية بانعدام الأمن. لو أن الحكاء القديم يحكي حكايته الآن، إذن لذكر لك مصطلحات العصر، العياق هم مجموعة عمل سري تخريبي (task force). المنزل المستأجر هو (safe house) أما الرجل الذي استأجر لهم البيت فهو عميل نائم (sleeping agent). ولكن لماذا أطلقت الحكايات الشعبية القديمة كلمة «العياق» وصفا للمجموعة؟ حيرتني هذه الحكاية طويلا إلى أن تنبهت إلى أن كل أو معظم العاملين في الأجهزة الأمنية المعاصرة يتسمون بالوسامة والأناقة. وكلمة عايق هي ما نصف به كل شخص يبذل مجهودا كبيرا ليبدو أنيقا ووسيما.

بمجرد نزوله إلى الإسكندرية يتوجه بيبرس على الفور إلى حانة مشبوهة بضغط إحساسه الأمني بأن الهدف لا بد أن يكون موجودا فيها، غير أن العيّاق كانوا في انتظاره فأمسكوا به وبنجوه ونقلوه في صندوق إلى الميناء، وبالفعل صعد الصندوق إلى سطح السفينة تمهيدا لشحنه إلى جنوا. نعود إلى القاهرة، مسؤول الأمن عند بيبرس اكتشف غيابه وبعد تحريات سريعة اكتشف أنه ذهب إلى الإسكندرية فتوجه إلى هناك على الفور وطلب من أمن الإسكندرية محاصرة الميناء ومنع الدخول والخروج ثم صعد إلى السفن التي على وشك الإقلاع وأخذ يفتش كل الصناديق فيها إلى أن عثر على رئيسه وهو ما زال تحت تأثير البنج.

هذه الحكاية الطويلة عن إحساس الحكاّء القديم بالخطر ومحاولته لفت أنظار المسؤولين من خلال الحكي المسلي، الهدف منها هو أن أقول لك بوضوح، بوصفي حكّاء قديما، أنا أشعر بالخطر وعاجز عن هضم عدد من الحوادث تحدث في مصر الآن، وأرى أن وراءها مجموعة من العياق. أنا عاجز عن فهم أن حريقا ينشب في محطة التبين للكهرباء فيدمرها إلى الدرجة التي تجعل المسؤولين يوقفونها عن العمل، أنا عاجز عن فهم أن نحو ثمانين ألف طائر داجن في مدينة المنصورة من الدجاج والبط والإوز تموت في ظرف ثلاث ساعات ثم يخرج علينا المسؤولون من كل اتجاه ليقول كل منهم كلاما مختلفا عن الآخر، ويكون المؤكد شيئا واحدا هو أنه لا أحد منهم يعرف سبب هذه المصيبة. أيضا أنا عاجز عن فهم أن بقعة من الزيت في صعيد مصر تتسرب إلى النيل ثم نقرأ مسلسلا في الجرائد عن مجهودات المسؤولين لمحاصرة هذه البقعة وتفتيتها، ولكن لا أحد يقول لنا مصدر هذا الزيت ولا كيف وصل إلى النهر، هل كانت هناك سفينة كبيرة حاملة بترولا تمخر عباب النيل واصطدمت بصخوره وأمواجه العاتية فغرقت وتسرب منها هذا الزيت أو السولار أو الزفت الأسود؟

في اللحظة التي يتطوع فيها مسؤول بالكذب من أجل الوطن، يكون قد ساهم بقوة في تدمير هذا الوطن. أعرف أن مرض (الكذب من أجل الوطن) مرض متوطن في مصر وهذا ما دفعني منذ نحو العام على صفحات هذه الجريدة أن أطلب من رئيس الدولة القادم أن يطلب من رجاله وأجهزته في أول لقاء له معهم، أن يكفوا عن هذا النوع من الأكاذيب التي يلجأون إليها بهدف طمأنة الناس وعدم ترويعهم.

لأكن أكثر وضوحا، مع اعترافي بافتقاري لمعلومات موثقة، أقول: من المتوقع أن تلجأ أجهزة العمل السري في إيران لعمليات تخريب في مصر والسعودية، فهذا هو أول ما يفكر فيه العقل المتطرف، أن يشعرك بالعجز والضياع وبأنك تحارب عفاريت لا تراها.

المجموعة التي قبض عليها الأمن في مصر الآن بالإضافة بالطبع لكميات الأسلحة المهولة التي وجدوها معهم في مدينة نصر ومدينة برج العرب، لم تزعجني بقدر ما أزعجني أن ضابطا مصريا - تقول الجرائد المصرية إنه تابع لجهاز سيادي - كان من بين المقبوض عليهم. مصطلح جهاز سيادي، مصطلح قديم يعني أمن الدولة (الوطني) الآن أو جهاز المخابرات، وأنا أطلب الآن من الجميع الكف عن استخدام هذا المصطلح، فقد كان المقصود منه هو أن تخرس عند سماعه. كلمة سيادي كان معناها أنك في مواجهة الجان والعفاريت الزرق وفي الغالب اشتق منها تعبير، دستور (يا أسيادي). لم تعد هناك أجهزة سيادية ولا وزارات سيادية، كلنا سادة وكلنا أيضا مرشحون لأن نكون ضحايا لعمليات تخريب يوقفها فقط تعاون الشعب مع أجهزة الأمن وهو الأمر الذي يتطلب ألا يكذب أحد على الناس.