أوروبا و«المحور الآسيوي»

TT

لم تسلط المناظرة الرئاسية الثالثة في الولايات المتحدة الضوء على العلاقات المستقبلية مع أوروبا أكثر من أول مناظرتين. وثمة اعتقاد خاطئ في بعض الأجزاء من أوروبا بأن «تمحور» الرئيس أوباما حول آسيا هو انحراف مؤقت، وأنه ينبع من كراهية الرئيس الأميركي لأجندة الحرية والديمقراطية وفقدانه للجذور الأوروبية.

وبالتالي، ترى هذه النظرية أن ميت رومني إذا ما أصبح رئيسا للولايات المتحدة فإنه «سوف يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح»، عن طريق إعادة أوروبا بالقرب من بؤرة الاهتمام الأميركي، ووقف التدهور في عدد القوات الأميركية في القارة الأوروبية، وتجديد مساعدته لحلف شمال الأطلسي (الناتو) لكي يتوسع شرقا، والاهتمام بصورة أكبر بالاضطرابات المحتملة المنبثقة من روسيا ودول البلقان وشمال أفريقيا.

لكن هذا يجب ألا يكون أبدا، لأن التغير في أولويات أميركا سوف يستمر. سوف تتعاطف أوروبا مع أهداف الولايات المتحدة في آسيا، لكن لن يكون لديها الكثير لتقدمه للمساعدة في ذلك، أما حلف شمال الأطلسي فإما يتكيف مع هذا الوضع الجديد وإما سيفقد مصداقيته بدرجة أكبر.

إن الرئيس أوباما لديه من الدوافع القوية ما يجعله يشعر بالقلق إزاء آسيا، ولن تختفي هذه الدوافع، حتى لو رحل أوباما عن البيت الأبيض. وبينما لا تزال روسيا متقلبة وتمثل مصدرا محتملا للمتاعب، فإن صعود الصين يمثل احتمالا أسرع للصراع، وهو الصراع الذي لن يكون أقل تدميرا من أي صراع تشهده أوروبا.

وعلى هذا الأساس، تكون السياسة المعقولة بالنسبة للولايات المتحدة هي الإبقاء على ما يكفي من القوات في أوروبا لردع روسيا عن ارتكاب أي عمل مزعج، مع التركيز على مواردها الاحتياطية في آسيا. ربما يكون الرئيس رومني أكثر لطفا من أوباما مع أوروبا عند الإعلان عن تغيير في السياسات، لكنه في النهاية سيتمحور عند الأمر نفسه.

إن تركيز الولايات المتحدة على آسيا سوف يضع حلف شمال الأطلسي في موقف غير مألوف تماما بالنسبة له، فمنذ إنشائه تقريبا كان الحلف لديه اتفاقية واضحة بصورة معقولة بشأن الجهة التي تعد معادية له، كما كانت كل دولة تقوم بإرسال ما يكفي من القوات حتى تكون ذات قيمة في هذا الحلف في حالة اندلاع أي حرب. وحافظ الحلف على هذه الوحدة في الحروب التي خاضها في أفغانستان وليبيا، على الرغم من أن العديد من الدول المتحالفة قد شاركت بإسهامات رمزية فقط، أو لم تشارك بأي شيء على الإطلاق. ويعود السبب في ذلك بصورة جزئية إلى أن بعض البلدان لم تكن مقتنعة بالاستراتيجية التي يتبعها الحلف، علاوة على أن العديد من هذه الدول ليس لديها ما تسهم به من الأساس.

ويعمل المحور الأميركي الآن على توسيع الفجوة بين الأولويات الأميركية في مجال الدفاع والقدرات الأوروبية، فإذا ما اندلعت حرب بين الصين وتايوان أو اليابان، فإن الدول الأوروبية سوف تكتفي بإظهار التعاطف وتترك الولايات المتحدة تخوض تلك المعركة. لا يعود السبب في ذلك إلى عدم تحلي الأوروبيين بالشجاعة اللازمة، ولكن بسبب نقص الأسلحة - أنواع وكميات الأسلحة بشكل مناسب. ولم يحدث من قبل في تاريخ حلف شمال الأطلسي أن كان حلفاء الولايات المتحدة بهذا القدر المتدني من الفائدة بالنسبة لأنواع السيناريوهات التي تشغل بال معظم محللي الشؤون الدفاعية في الولايات المتحدة أكثر من أي شيء آخر.

لكن ما الذي يتعين على حلف الناتو القيام به؟ ترى إحدى المدارس الفكرية في أوروبا أن حلفا بهذه القدرات والإمكانيات المختلفة على نطاق واسع لن يتمكن من البقاء على قيد الحياة، ولذا يتعين على الأوروبيين أن يقوموا ببناء قوات قادرة على استكمال وإتمام القوات الأميركية، وهو ما يعني في غالب الأمر توسيع الأساطيل الأوروبية. وعلاوة على ذلك، ترى تلك المدرسة أن الأمن في آسيا يفيد المصالح الأوروبية أيضا - ولذا يجب أن يكون الحلفاء مستعدين للقتال في المحيط الهادي بغض النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة تتوقع الحصول على مساعدتهم أم لا.

ومع ذلك، يعد هذا ضربا من الخيال في حقيقة الأمر، لأن القوات الأوروبية قد تم بناؤها في الأساس حتى تكون قادرة على المشاركة في الصراعات القريبة من أوطانها، وهي ليست على استعداد تماما للقيام بدور ذي مغزى في المحيط الهادي، ولن تكتسب المهارات الضرورية والأجهزة والمعدات اللازمة في وقت قريب - بالتأكيد ليس في خضم أسوأ أزمة اقتصادية منذ عقود. ولعل الأسطولين الوحيدين القادرين على تقديم المساعدة اللازمة في آسيا هما الأسطولان الفرنسي والبريطاني، وحتى فرنسا، في ظل نظرتها الاستراتيجية الحالية، تميل إلى الإبقاء على وجود رمزي في المحيط الهادي.

وبدلا من تلك الوحدة الزائفة في التفكير والقوة - والتي حتما ستخيب آمال الجميع في حال اندلاع حرب في آسيا - يتعين على الحلفاء أن يعترفوا بوجود الاختلافات الكبيرة بينهم ويقوموا بوضع استراتيجية جديدة لحلف شمال الأطلسي تجمعهم في إطار واحد.

وفي آسيا، يتعين على أوروبا أن تثبت أنها تشاطر الولايات المتحدة في مخاوفها الأمنية، وأنها ستقوم بما في وسعها، وهو ما يعني تقديم الدعم لشركائها في المنطقة لتدعيم جيوشها ودعم الجهود الدبلوماسية الأميركية وتطبيق تجربة الاتحاد الأوروبي، إذا كانت قابلة للتطبيق، بهدف بناء هيكل أمني إقليمي يضم الصين. وإذا ما فشلت تلك الجهود فإن الأوروبيين لن يسعوا للقتال في آسيا (ويتوقع عدد قليل من المراقبين الأميركيين حدوث ذلك على أي حال).

وفي المقابل، فإن الأوروبيين سوف يتحملون مسؤولية كبيرة عن المهام «التقديرية» في جميع أنحاء أوروبا، بمعنى المهمات التي يتم القيام بها تحت اسم حقوق الإنسان (مثلما حدث في ليبيا)، أو بناء المجتمعات التي دمرتها الحروب (مثل دول البلقان). إن قيام أوروبا بدور عسكري أكبر في القارة من شأنه أن يساعد الولايات المتحدة على تحويل المزيد من القوات والمال إلى المحيط الهادي.

إن الاستعداد لحروب الدفاع عن النفس، مثل الصراع المحتمل مع روسيا، سوف يظل مسؤولية جميع الحلفاء على حد سواء، بما في ذلك الولايات المتحدة. ومن دون القيام بذلك فإن تعهد الحلف بالدفاع عن أعضائه سيكون غير ذي مصداقية.

وهذه هي الصفقة الجديدة التي يتعين على الحلفاء أن يطرحوها على الرئيس الأميركي. وسواء كان الرئيس القادم هو باراك أوباما أو ميت رومني فإن أنظار الجيش الأميركي ستتجه نحو آسيا، ولن تكون أوروبا لاعبا عسكريا حقيقيا في المنطقة مطلقا، لكنها قد تكون مفيدة للولايات المتحدة بطرق أخرى. وإذا ما توافرت السياسات السليمة فيمكن لحلف شمال الأطلسي أن يبقى قويا حتى لو لم تفكر الولايات المتحدة في نفسها على أنها قوة أوروبية مرة أخرى.

* رئيس المعهد المركزي للسياسات الأوروبية