القرية بديل الأم والوطن

TT

عاش بدر شاكر السياب حيا في سجون العراق وفقره، وبعد عودته إلى البصرة جثمانا أقامت له الدولة نصبا برونزيا في إحدى ساحات البصرة. هل هو أهم شعراء العراق؟ تختلف الآراء والأذواق. هل هو صاحب أعذب الشعر في العراق؟ هذا موقفي الفردي، إما تحيزا لبدر أو جهلا بباقي الشعر العراقي.

عرفت السياب بعض المعرفة، بضع مرات في لقاءات مجلة «شعر» في بيروت، ثم في الكويت، عندما جاء يمضي أشهره الأخيرة على سرير حديدي في أحد مستشفياتها. في سهرات «شعر» ووحشة المستشفى، كان بدر يشبه موالا حزينا من مواويل العراق: نحيلا مثل قارب ضيق، فاغر الخدين مثل قارب عتيق، بعيد النظرات مثل نخلة ضائعة صوب السماء.

شخصه قصيدته. ملامحه مثل إيقاعها، مكررة وكئيبة ومشحونة بالوحدة. عاش بدر في حي البائسين. فقد أمه ولم يعثر على وطنه. نشأ في كنف جدته وفي كنف خاله وفي كنف السجون، وكل كنف غير كنف الأم غربة. ولذلك جعل قريته، جيكور، الأم والوطن معا. ولست أدري مدى الحقيقة في جيكور، ومدى الحلم بها. وربما كان يحن إلى لا شيء، إلى ماض لم يكن له وجود، وإلى مستقبل ولد سلفا في اليأس.

كان والده بائع تمر بسيطا. وعندما تنقل في الأعمال التي دونه، بعد تخرجه في «دار المعلمين»، عمل «ذواقة تمور» يحدد الجيد منها ويوصي باجتناب الأقل غنى وطيبة. ومن جملة ما عمل موظف في إدارة موانئ البصرة. ولما أعاد الشاعر الكويتي جثمانه إلى البصرة اكتشف أن الإدارة طردت عائلة بدر من المنزل وأصبحت بلا مأوى.

عبر العصور شكا الشاعر العربي من الفقر والإهمال. لكن هل كان شاعر في حجم بدر مسؤولية الدولة العراقية وحدها؟ لا. كان مسؤولية العراق، وإلى حد بعيد مسؤولية العرب. فقد عرف الشهرة والمكانة وهو حي، لكنه لم يحاول أن يبتز أحدا بالهجاء، ولا أن يتزلف في المديح. ظل مثل نخلة صغيرة مهملة في بستان كبير.

«من قلب أرض عريقة في الكآبة والحرمان، مبطنة بالشعر والتاريخ، ومع تباشير الوعي القومي والحضاري، ارتفع صوت السياب».. هكذا حكت خالدة سعيد عن بدر عندما كرمته «الندوة اللبنانية» (1965) بعد عام من وفاته. ودعته بيروت كما ودعت أولئك الذين أغنوا اسمها وتاريخها كما أغنوا جمالها كموئل للفكر والشعر والتجدد. فيها لم يكن الشاعر يخاف السجن، ولا الاضطهاد، اللهم عدا اضطهاد النقاد والحساد. قافلة من نزار قباني ومحمود درويش وعمر أبو ريشة ومحمد الماغوط وأحمد الصافي النجفي.. وكان بدر أحزنهم.