الصراع على سوريا في عالم مختل الأقطاب

TT

تتوجه أنظار العالم إلى الانتخابات الأميركية، ويترقب السوريون نتائجها، علها تضع حدا لمرحلة اللاقرار واللعب في الوقت الضائع، التي تمثلت بمبادرات وبعثات، اكتفت باستعراض مظاهر العمل الفارغ وتجارة الكلام في بازار سياسي مفتوح.

وبانتظار البيت الأبيض كي يستقبل سيده للأعوام الأربعة المقبلة، يبدو أن لا شيء يمايز بين رومني وأوباما بالنسبة للسوريين سوى الاسم ولون البشرة، فقد بينت المناظرات بين الرجلين تطابق مواقفهما برفض التدخل العسكري في سوريا، وتقاربهما بما يخص تسليح الثوار المشروط بتحديد الجهة التي ستستلم السلاح وتستخدمه، مما يضع العملية رهنا لاعتبارات يسهل المماطلة فيها.

تطرح تساؤلات كثيرة عن سبب البرود الأميركي في التعامل مع الملف السوري، والذي يستتبعه برود وارتباك في الموقف الغربي وخصوصا الفرنسي، إذ نحى مؤخرا إلى الاكتفاء بالتركيز على الجانب الإنساني والإغاثي، وقضايا الإدارة الذاتية للمناطق المحررة، ومحاولات تشكيل حكومة انتقالية، قد تحظى بشرعية دولية ما، تمكنها من اتخاذ بضعة قرارات، لن تخرج عن سياق الممكن للداعمين وحساباتهم الدقيقة. لتحمّل الأسطوانة الغربية بلازمة توحيد الجيش الحر إلى جانب اللازمة التقليدية بتوحيد المعارضة السياسية، وعلى الرغم من أن كلتيهما من المطالب المحقة، إذ أن التشكيلات السياسية السورية تتحمل - بتشرذمها والمصلحية البحتة التي نهجت عليها تياراتها وشخوصها في معظم الأحيان - قدرا كبيرا من المسؤولية، إلا أن الغرب المتردد أصلا قد استفاد من ذلك في استجرار الحجج لتبرير التلكؤ، فكان الاكتفاء والانكفاء خلف المساعي الكلامية، أحد أهم العوامل التي أوصلت الحال إلى ما هي عليه.

وبالعودة إلى غياهب موقف الولايات المتحدة، يرى كبير باحثي جامعة ييل الأميركية في ورقة نشرها مركز الجزيرة للدراسات، أن تردد إدارة أوباما في دعم الثورة السورية يعود إلى جملة من العوامل نذكر من أهمها، أن الشعب الأميركي وكبار ضباطه العسكريين قد سئموا الحروب، فوفقا لاستطلاعات للرأي أجريت مؤخرا، يرى الأميركيون أن حربي أفغانستان والعراق «خطأ يجب ألا يتكرر». ويضاف إلى ذلك توجس من «تزايد نفوذ القاعدة» بعد سقوط الأسد، وتصاعد «الصراع بين الفصائل بما يشبه أفغانستان بعد سقوط النظام الشيوعي عام 1992». ولعل أهم ما أورده والرشتاين مخاوف من «تراجع العلويين إلى منشأهم الجبلي ليواصلوا القتال من هناك»، و«تعرض الأقليات بمن فيهم المسيحيون للاضطهاد»، بما يتساوق مع تصريح لافروف بأن «بشار الأسد يمثل ضمانة أمن الأقليات وبضمنهم المسيحيين». فالتعبير الروسي على فظاظته، يحمل كثيرا من المشتركات مع التشككات الأميركية، ضمن منظور لا يخرج عن وصف الصحافة الغربية للثورة السورية، التي يرد ذكرها حربا طائفية أو حربا أهلية بأحسن الأحوال.

يوحي ظاهر الموقف الروسي، بالتخوف من انعكاسات وتصعيد في الجمهوريات الإسلامية المضطربة ضمن حدوده، إلى جانب مصالح بالحصول على موطئ قدم في المياه الدافئة، يؤمنها ميناء طرطوس، عدا عن مبيعات الأسلحة والتي تجد في سوريا سوقا محدودة لها. لكن هل تكفي تلك المبررات لتفسير التعنت الروسي والتردد الأميركي؟ ثم إن المطالب الروسية، كما تبدو، يسهل احتواؤها والمساومة عليها، في حال كانت لا تستتر على مطامح أخرى.

لا شك أن نهاية الحرب الباردة، التي وضعت أوزارها مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وما رافقها من تحول النظام ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية، قد غيرت قواعد اللعبة في مسرح السياسة الدولية، وحررت الولايات المتحدة ومن خلفها الكتلة الغربية، من عبء التوازنات الدقيقة في حسابات المصالح وردود الفعل، فتصرف ساسة البيت الأبيض كسادة العالم، وأتيح لهم القيام بمبادرات وتدخلات منفردة في مناطق عدة، خارج إطار الشرعية الدولية. وكان الدب الروسي في تلك الفترة منشغلا باعتلالاته الداخلية، واقتصاده المنهار. فبدأ سباتا شتويا طويلا لم يكن خلاله قادرا على الالتفات لأطرافه الحيوية حيث كان حلفاؤه وأصدقاؤه يتساقطون، فمع بداية القرن الحادي والعشرين، أطاحت قوات الناتو بالزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش عام 2000، وتم غزو العراق رغم الرفض الروسي في الحالتين، كما شهد محيطه الجيوسياسي المباشر ثورات غيرت نسبيا خريطة التحالفات الهشة، ثورة الورود في جورجيا 2003، والثورة البرتقالية في أوكرانيا 2004، كان من السهل حينها أن تواجه روسيا بـ«لا» وتنكفئ على خيبتها، أما اليوم فيبدو أنه من السهل أن يقال للولايات المتحدة: «لا».

لقد شهدت روسيا نقلة نوعية مع نهاية حكم يلتسين الضعيف في 1999، وبداية عهد بوتين الذي استطاع أن ينهض بالاقتصاد الروسي، ويضاعف متوسط الدخل الشهري للمواطن بضعة أمثال، ويراكم احتياطيات نقدية لا يستهان بها، مستفيدا من ارتفاع أسعار موارد الطاقة، التي كانت من جملة عوامل نهضته بالاقتصاد، وأعادت روسيا إلى نادي الكبار سياسيا واقتصاديا، لكنها أرادت أن تعود قوة عظمى. فكانت نقطة التحول الفاصلة في حرب الأيام الخمسة في جورجيا عام 2008، حيث بدا الدب الروسي كمن يقف في وجه محاولات انضمامها للناتو، لمنع الأخير من التمدد نحو حدوده المباشرة، وفي خطوة كانت ردا على الاعتراف الغربي باستقلال كوسوفو عن صربيا، اقتطعت روسيا جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيتا من جورجيا واعترفت بهما، لتعلن بذلك بداية مرحلة جديدة، وتبدأ الولايات المتحدة أيضا مرحلة مختلفة مع أزمة اقتصادية عاصفة، لا تزال تعاني بعضا من تبعاتها إلى اليوم، إلى جانب أعباء ثقيلة من حربين طويلتين في العراق وأفغانستان، فسحبت جيوشها من الأولى وحددت عام 2014 لانسحابها من الأخيرة. لقد فشل أوباما في تحقيق كثير من وعوده الاقتصادية، ويبدو أن سيد البيت الأبيض القادم سيمنح البلاد استراحة محارب، ويلتفت إلى شؤونها الداخلية وعجوزات الموازنة التراكمية والمزمنة.

ومع ذلك لا تتمخض الساحة الدولية اليوم عن قوى عظمى بالمعنى التقليدي الذي عرفته الحرب الباردة، ولا على شاكلة مرحلة ما بعد الحرب الباردة أيضا، إذ يبدو العالم الراهن مختل الأقطاب، وربما بطريقه إلى العودة نحو تعددية الأقطاب التي وسمت فترة ما قبل الحربين العالميتين. ليست قوة روسيا هي المعيار إنما استشعارها بتراجع – قد يكون مرحليا - لندها القديم، والحاجة إلى ترسيخ قواعد جديدة لإدارة الأزمات الدولية، في نظام دولي جديد لم تتضح ملامحه بعد، بما يعيد لها بعضا من مكانتها، عبر إدارة صراع مع خصومها، وبالتحالف مع أصدقائها، في ساحات بعيدة عن أراضيها. فالمجتمع الدولي لم يعد ينظر إلى الثورة السورية كثورة ضد ديكتاتور، بل إلى صراع بين حكومة ومعارضة مع أبعاد وامتدادات طائفية، لتسهيل إدارته واستقطاب عناصره واستثمار نتائجه، دون اعتبار لعامل الزمن وانعكاسات الصراع على سوريا كساحة له.

لقد قالت روسيا كلمتها بأن «الأسد لن يرحل»، وهددت باستمرار «حمام الدم» في حال لم تؤخذ مطامحها بعين الاعتبار، وهي بذلك ترسل رسالتها إلى سيد البيت الأبيض القادم قبل أن يتولى منصبه، رسالة لبدء التفاوض بين ندين، وليست لمساوم ينتظر ثمنا من سيد كبير، لتقول أيضا إن هناك نظاما دوليا جديدا يصنع الآن، على حساب دماء شعب، سيلعن التاريخ قاتليه.