السر الذي أخفته إسرائيل بالنسبة لاغتيال «أبو جهاد» في 1988

TT

بعد نحو 24 عاما سمحت الرقابة الإسرائيلية بنشر تفاصيل عملية اغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) الذي اغتيل في تونس في 16 أبريل (نيسان) عام 1988 بعد استدراجه بيوم واحد من الجزائر باعتقال نقيب محامي قطاع غزة الذي هو أحد أقاربه، ويومها كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ذروتها، وكان ذلك الاغتيال أولا للتأثير على هذه الانتفاضة وهز معنويات الذين كانوا يديرونها ميدانيا على اعتبار أن هذا الشهيد هو مهندسها وهو قائدها الفعلي، لكونه قائد «القطاع الغربي» الذي يعني الضفة الغربية وقطاع غزة، وأيضا الأرض المحتلة منذ عام 1948، وثانيا للرد على عملية استهدفت المفاعل النووي الإسرائيلي كادت تتحقق غايتها لو لم يقع المنفذون في خطأ «تكتيكي» كشف أمرهم للقوات الإسرائيلية.

والمؤكد أن الذين اطلعوا على تفاصيل عملية اغتيال هذا القائد الفلسطيني من خلال ما كانت قالته زوجته انتصار الوزير (أم جهاد) التي كانت قد شاهدت كل ما جرى وهي تحتضن طفلها الذي أصبح شابا في نحو الخامسة والعشرين من عمره ومن خلال التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية في تلك الفترة، التي غدت بعيدة بمقدار نحو ربع قرن، لم يجدوا أي جديد في رواية «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، التي استندت فيها إلى ما أبلغها به ضابط «الموساد» ناحوم ليف الذي وصفته بأنه منفذ هذه العملية قبل أن يلقى حتفه في حادث سير، فكل ما قيل كان معروفا لكل القادة الفلسطينيين ولكل من اهتم بهذه المسألة وتابعها بكل تفاصيلها الدقيقة.

واللافت أن «يديعوت أحرونوت» قد أغفلت في روايتها هذه ما قالت إنها قد حرصت على عدم التطرق إليه لأسباب وصفتها بأنها تتعلق بـ«المصالح العليا للدولة الإسرائيلية» وهي ثلاثة أمور: أولا أن قائد هذه العملية هو وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي إيهود باراك، وثانيا: إن الذين قاموا بعمليات الاستطلاع من عملاء «الموساد» الإسرائيلي، والذين كانوا وصلوا إلى تونس قبل نحو ثلاثة أسابيع من موعد التنفيذ كانوا يحملون جوازات دولة أوروبية غربية (لا داعي لذكر اسمها الآن)، وثالثا: إنه كان هناك تعاون استخباري محلي مسبق مع جهاز «الموساد» الإسرائيلي الذي نفذ عملية الاغتيال هذه وكل عمليات الاغتيال السابقة واللاحقة التي استهدفت قيادات الصف الأول في المقاومة الفلسطينية.

وبالطبع، فإن عدم سماح الرقابة العسكرية لـ«يديعوت أحرونوت» بنشر أن قائد هذه العملية الإجرامية والمشرف عليها هو إيهود بارك، الذي كان يومها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، والذي كان هو أيضا قائد عملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة: كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، في بيروت في عام 1973، تحاشيا لأن يعتبر هذا اعترافا إسرائيليا رسميا يستدعي ملاحقة وزير الدفاع الحالي من قبل محكمة الجنايات الدولية. وبالطبع، فإنه غير متوقع أن تكشف «يديعوت أحرونوت» النقاب عن أنه كان هناك متعاونون محليون مع «الموساد» الإسرائيلي لتنفيذ جريمة الاغتيال هذه المشار إليها، تحاشيا لأن تكشف التحقيقات التي من المفترض أن يلجأ إليها الفلسطينيون، بمساعدة عربية وغير عربية، عن أسماء هؤلاء، كما أنه غير متوقع أيضا أن تسمح الرقابة العسكرية الإسرائيلية لهذه الصحيفة بكشف النقاب عن أن أعضاء فرقة الاستطلاع والإعداد كانوا يحملون جوازات سفر دولة أوروبية غربية، سواء كانت هذه الجوازات مزورة أو غير مزورة.

وهنا فإن ما تجب الإشارة إليه هو أن خليل الوزير (أبو جهاد)، الذي كان قد بدأ العمل العسكري ضد إسرائيل عندما كان طالبا في المرحلة الثانوية، والذي كان الأسبق في تشكيل الخلايا المسلحة في قطاع غزة، والذي كان أيضا أحد الرواد الأوائل الذين أسسوا حركة فتح، والذين شاركوا في اجتماع «الصليبخات» على شواطئ الكويت لإطلاق اسم «قوات العاصفة» على الجناح العسكري لهذه الحركة، هو ثالث مسؤول لـ«القطاع الغربي» يغتاله «الموساد» الإسرائيلي، فقد سبقه إلى «الشهادة» كل من كمال عدوان الذي كان أول مسؤول لهذا القطاع، والذي اغتيل مع رفيقيه كمال ناصر وأبو يوسف النجار في بيروت في العاشر من أبريل (نيسان) 1973 وماجد أبو شرار الذي كان هو بدوره أيضا مسؤولا لهذا القطاع، والذي جرى اغتياله بمتفجرة زرعت في سريره في أحد الفنادق في روما في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1981، حيث كان يشارك في فعاليات مؤتمر عالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني جرى عقده في العاصمة الإيطالية.

والمشكلة بالنسبة لكل هؤلاء القادة الفلسطينيين الذين جرى اغتيالهم من قبل المخابرات الإسرائيلية، من ياسر عرفات (أبو عمار) إلى خليل الوزير (أبو جهاد) إلى صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد (أبو رضا) وكمال عدوان وكمال ناصر و(أبو يوسف النجار) وغسان كنفاني و(أبو حسن سلامة) وسعد صايل (أبو الوليد) ووائل زعيتر.. وأيضا الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وأبو علي مصطفى الزبري، رحمهم الله جميعا، أنهم ما كانوا يقدرون مدى ما كانوا يشكلونه من خطر على أعدائهم الإسرائيليين، وأنهم كانوا يتبعون وسائل حماية بدائية وكانوا يعتمدون على حارس أو حارسين من غير ذوي الكفاءات الأمنية، والذين لا يتمتعون لا بلياقة أمنية ولا عسكرية ولا بدنية. وعلى سبيل المثال، فإن كمال عدوان وكمال ناصر و(أبو يوسف النجار) كانوا يسكنون في عمارة واحدة ومن دون أي حراسات ومن دون أي أسلحة فعلية وحقيقية وفي منطقة قريبة من منطقة الحمراء البيروتية الشهيرة التي كانت مفتوحة لكل من «هب ودب»، كما يقال، وكانت رؤية أي غريب غير عربي فيها لا تبعث على الشكوك، وهذا ما مكن أحد كبار المسؤولين الحاليين في إسرائيل الذي كان يرتدي لباس فتاة بشعر أشقر مستعار من الوصول إليهم في شققهم ويقتلهم تباعا حتى من دون أن يدفع إطلاق النار فضول الجوار والمارين في شوارع المنطقة.. إذ إن إطلاق نيران الأسلحة الرشاشة كان مسألة عادية ومألوفة في تلك الفترة في عام 1973، إن في بيروت وإن في غيرها من المدن اللبنانية.

هذا بالنسبة لهؤلاء الشهداء الثلاثة، أما بالنسبة لـ(أبو جهاد)، الذي كان هو القائد العسكري رقم «1» في الثورة الفلسطينية، والذي كان «بداية الرصاص» كما كان يصفه (أبو عمار)، وكان هو مهندس الانتفاضة الأولى التي أرعبت الإسرائيليين ونبهت الرأي العام العالمي ولأول مرة إلى فداحة معاناة الشعب الفلسطيني، وكان قائدها الميداني والذي كان قد استهدف مفاعل «ديمونة» النووي بعملية نوعية، فإنه ورغم كل هذا كان يكتفي بحارس واحد وصل إليه القتلة الإسرائيليون وهو يغط في نوم عميق في كوخه أمام منزل لا موقعه موقع منزل قائد بكل هذه الأهمية، ولا منطقته المفتوحة على البحر والبعيدة عن أي مركز أمني وغير الخاضعة إلى أي مراقبة أو حماية أمنية من الممكن أن يسكنها مسؤول فلسطيني بكل هذه الأهمية.

وأيضا فإن حتى ياسر عرفات (أبو عمار) الذي كان أكثر حذرا وأكثر حيطة من كل زملائه ورفاقه كان يعتمد على غريزته الأمنية أكثر من اعتماده على حراسات مشددة مدربة ومتأهبة على مدار الساعة، وكان غذاؤه لا يخضع للرقابة المفترضة الضرورية، وكان حتى ضيوفه العابرون وحتى كل العاملين بمركزه القيادي يشاركونه عشاءه المتأخر دائما وباستمرار.. وهذا ما كان عليه الأمر عندما كانت قيادته في عمان.. ثم في بيروت، ثم في غزة، ثم في رام الله، ولذلك فقد تمكن الإسرائيليون من اصطياده بالمادة السامة التي تم كشف النقاب عنها مؤخرا، والتي بات بحكم المثبت أن «الموساد» الإسرائيلي، من خلال عملاء مجرمين وخونة، هو الذي دسها في طعامه خلال حصاره الشهير في مقره القيادي في مباني «المقاطعة» في رام الله!!