علماء الإسلام الفرنسيون

TT

يبدو، في الظاهر على الأقل، أن مبدأ التمييز بين قولنا: المسلمون في أوروبا وقولنا الأوروبيون المسلمون، قد أصبح مبدأ مقبولا في عمومه. والقصد بذلك أن الأمر لم يعد بالنسبة للساكنة الأوروبية المسلمة أمر هجرة ومهاجرين قدموا إلى البلدان الأوروبية، والغربية منها خاصة، من أجل إقامة محدودة في الزمان يرجعون بعدها إلى أوطانهم الأصلية وإنما هو قد أصبح أمر استقرار وتجنس بجنسيات البلاد التي قدموا إليها، ومن ثم فإن جملة قضايا قد طفت على السطح كما لو أن ذلك قد حدث دفعة واحدة: قضايا المواطنة، والاندماج في المجتمع الغربي الذي اختاروا الإقامة فيه وسعوا للحصول على الجنسية التي تجعل منهم مواطنين وتجعلهم أمام حقوق لا يتمتعون بها في الغالب أو هم لا يقدرونها حق قدرها وواجبات يجادلون، أحيانا، في الوفاء بها، والهوية، والدين والتدين في مجتمعات سمتها المميزة هي اللائكية.

ولست أريد اليوم أن أتحدث، بشكل مباشر على الأقل، عن أي منها. أو لنقل إنني، بالأحرى، أود أن أنبه إلى بعض تجلياتها وانعكاساتها البعيدة وذلك عبر الإطلالة على الموضوع الذي أجعل منه عنوانا لحديثي اليوم.

ربما كان هذا التمييز بين مسلمين يعيشون في أوروبا وبين أوروبيين مسلمين (وبالتالي مسلمون ينتسبون إلى ما يسمى بالجيل الثاني وما بعده من المهاجرين الذين استوطنوا في بلدان أوروبا الغربية خاصة وتجنسوا بجنسية أبنائها) قد ظهر في الكتابات الفكرية الجادة في منتصف تسعينات القرن الماضي للمرة الأولى فيما أحسب.

ولعل أحد كبار المستعربين الذين كانوا يتمتعون بفكر نقدي نفاذ، ويتوفرون على معرفة شمولية بالعالم العربي، معرفة نظرية وميدانية على وجه الخصوص هو عالم الاجتماع الفرنسي جاك بيرك. يكفي أن نذكر بأنه شغل منصب أستاذ التاريخ الفكري والاجتماعي للإسلام مدة 25 سنة في مؤسسة الـ«كوليج دو فرانس» العتيدة، وأنه صاحب دراسات رصينة تتعلق بالمغرب العربي (والمغرب خاصة) وكذا بمصر، فضلا عن المناصب الحساسة التي شغلها في المغرب أيام الحماية، وقد يكون من الجميل والمفيد أن نذكر كذلك أن العالم الفرنسي المذكور قد أثرى مكتبة الدراسات الإسلامية الفرنسية بترجمة لمعاني القرآن تفيض رقة وعذوبة وتنم عن معرفة غير يسيرة باللغة العربية وبالتراث العربي الإسلامي.

كتب جاك بيرك في عبارات تذكرنا بجمل شهيرة اشتهر بها مارتن لوثر كينغ «أحلم حلما جميلا». كتب الأستاذ الفرنسي في كتاب صادر في سنة 1994: «افترضوا أنه لن يخلق في فرنسا إسلام فرنسي فحسب، بل إسلام لفرنسا (..) أقصد بذلك إسلاما يكون في توافق مع الانشغالات الراهنة للمجتمع المعاصر، قادر على إيجاد حلول لمشاكل لم يسبق له أن جابهها في المجتمعات الأصلية وذلك لأسباب تاريخية».

كتب عالم الاجتماع المتخصص في دراسة المجتمعات الإسلامية ما كتبه سنوات قليلة بعد انبثاق ما عرف في فرنسا، في نهاية الثمانينات، بقضية «المنديل الإسلامي» يعني الغطاء الذي يغطي شعر رأس المرأة وكان موضع ضجة كبرى كانت في الواقع تفجيرا هائلا لمجموعة القضايا الشائكة التي ألمحنا إليها أعلاه (الاندماج في المجتمع الفرنسي، الهوية، المواطنة، التدين، الديانة الثانية في بلد اللائكية..).

الحق أن ما طرحه جاك بيرك في صورة حلم أو افتراض - وهو كما نرى لم يكن قولا ساذجا وإنما كان نظرا عميقا وفكرا ثاقبا ليس يملكه من العلماء في أوروبا الغربية إلا من كانت له من الحيثيات ما كان للمستعرب وللعالم الذي عرف بمواقفه الإيجابية تجاه الإسلام والمسلمين، وتعاطفه البالغ مع قضاياه - إن ذلك في طريقه أن يغدو واقعا متحققا بيد أنه واقع تحف به صعوبات شتى وعراقيل من أصناف متعددة. أخص تلك الصعوبات تلك التي تتعلق بصعوبات الاندماج في المجتمع الفرنسي (وإذا كانت لفرنسا وضعية تتميز بها بالنظر إلى طبيعة ومنى الدولة اللائكية، فهي تعكس على كل صورة الوجود الغربي المعاصر سياسيا واجتماعيا)، والاندماج - كما كتبت من هذا المنبر أكثر من مرة واحدة - يستلزم، من جانب أول، وجود القدرة على الاندماج من قبل «الوافد» ثقافيا وعاطفيا (المستوطن من أبناء الجيل الثاني فصاعدا) وكذا الرغبة الصادقة في ذلك، كما يقتضي القبول من قبل «المواطن الأصلي» من جانب آخر.

وقضية الممارسة الدينية الإسلامية تعكس، دفعة واحدة، جملة أبعاد سيكولوجية وثقافية واجتماعية.. مثلما تنقلنا إلى جوهر القضية عندما تطرح السؤال الصريح والمباشر: ما معنى أن أكون اليوم مسلما في مجتمع فرنسي معاصر وأن أعيش في كنف دولة يرى أبناؤها أن اللائكية هي ماهية تلك الدولة؟

الواقع أن السؤال يحتمل إجابات متعددة، تختلف باختلاف الهم الذي يحرك المتسائل. بيد أنني أسعى إلى التماس الجواب الممكن منطقيا وثقافيا، وكذا اجتماعيا بالنسبة للشخص الذي يحرص على مراعاة التزامه بالديانة الإسلامية ضمن سياق معلوم وفي ظل شروط من الممكن تحديد أهمها على النحو التالي. أول تلك الشروط وأكثرها أهمية هو المراعاة الكاملة لطبيعة اللائكية وحقيقة الدولة الفرنسية اللائكية. ومعنى هذه المراعاة بالنسبة للمسلم هي التسليم بالفصل التام بين المجالين: الشخصي (أو الخاص)، والعام - وبموجب هذا الفصل فإن الدين ينتسب إلى المجال الأول، في حين أن العيش المشترك يقتضي الاحتكام إلى قوانين لا يكون للدين عليها سلطان، إلا ما كان من التقاء بين الدين وبين القانون في المستوى الأخلاقي، والترجمة العملية لهذا الاقتضاء بالنسبة للمواطن الفرنسي المسلم (ونحن نتحدث بطبيعة الأمر عن المواطن ذي الأصول المغاربية أو العربية وربما التركية، وغير العربية في أحوال نادرة) هي إعادة النظر في العلاقة بين الشريعة وبين الحياة العملية في فرنسا. نعم، تقتضي هذه العلاقة اليوم نظرا اجتهاديا جديدا بالنسبة لعموم المسلمين، بيد أنه يتعين التسليم بوجود فروق بينة، بين أن تكون مسلما في بلد غالبيته العظمى مسلمون، وأن تكون في بلد تظل الديانة الإسلامية أقلية عددية في وضع متعب ومزعج معا.

وإنني لست بهذا القول أعبر عن وجهة نظري الشخصية، وإنما أجتهد في صياغة وجهة نظر أخذت أصوات ترتفع بها في منتديات ومجامع في فرنسا. ومن توضيح أكبر لما أقصد التنبيه إليه، وبكيفية تربط الصلة بما اخترته عنوانا لمقالتي هذه، فإنني أقول - محاولا التعبير ثانية عما تعتلج به المنتديات الإسلامية في الغرب الأوروبي اليوم عامة وفي الفضاء الفرنسي خاصة: «لقد أصبح المسلمون الفرنسيون، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى فئة جديدة من العلماء في الدين. لم يعد من المجدي ولا من المعقول أن يعتلي منابر المساجد يوم الجمعة أئمة لا يحسنون التعبير باللغة الفرنسية، وهذا من جهة أولى ولا يسلمون بأن للمسلمين في فرنسا أوضاعا تقتضي نظرا جديدا في الصلة بين الشريعة وبين الحياة العملية وقدرة على الاجتهاد في دائرة الشروط التي تتعلق لا بالوجود داخل الدولة اللائكية الفرنسية فحسب بل في الانتماء إليها من جهات القانون والاجتماع والثقافة.

واقع جديد ودعوة إلى تفكير جديد، أو بالأحرى، إلى إعادة التفكير في حال المسلمين في العالم.