انطرحت على الفراش مغمى عليّ

TT

في موسم الحج الماضي علق حاج في منتصف أحد جبال (منى) فمد له رجال الإنقاذ السلالم وأنزلوه بسلام.

ولا شك أن حظه أفضل من حظي بمراحل، حيث ذكرني بموقف مشابه حصل لي، ولم أكن وقتها حاجا وإنما كنت داجّا في مدينة الطائف، وكنا نسكن في حارة قروي التي تقع تحت سفح جبل شاهق يقال له (جبل السكارا)، وهفتني يوما نفسي عندما كنت صبيا أن أصعد في عصر أحد الأيام إلى قمته، وهذا ما حصل، ولكنني ما كدت أصل إلى قمته حتى علقت، عندها أصابتني (نفاضة) ورعب رهيب وأخذت قدماي (تتراقل) متخيلا أنني سوف أهوي إلى جب سحيق، وكنت ساعتها أشاهد الناس بالأسفل يتحركون وكأنهم نمل، فأخذت أصيح طالبا النجدة، ولكن من سوء حظي أن الرياح كانت معاكسة فتذهب بصوتي للخلف وللأعلى فلا يسمعون صياحي أو بمعنى أدق صراخي، وكلما أخذت ألوح لهم بيدي، يعتقدون هم للأسف أنني أحييهم وأسلم عليهم، فيردون في المقابل بالتلويح بأياديهم، ثم يمضون في حال سبيلهم.

وعندما غربت الشمس وحل الظلام وانفض الناس ولم يعد هناك ولا حتى (صريخ ابن يومين) - مثلما يقول إخواننا أهل مصر - ازداد هلعي، وكان الوقت شتاء، وبدأ البرد القارس ينخر عظامي، فزاد الطين بلة، وكنت في موقف لست لا أحسد عليه فقط، ولكنه حقا يدعو للرثاء، وخطر على بالي في لحظة يأس موضوع الانتحار، غير أن ما أوقفني عن تنفيذ ذلك الفعل هو تشككي وتساؤلي: هل لو أقدمت على ذلك سوف أصبح شهيدا وأدخل الجنة، أم أنه يعتبر انتحارا وأدخل بعد ذلك النار؟!

وانتصف الليل وأنا ما زلت قابعا في مكاني كالجرذ المذعور، ولا شغل لي غير أن أعد النجوم، واكتشفت أن الحياة حلوة جدا وأكثر مما أتصور، وحسدت من أعماق قلبي كل الأحياء الذين يدبّون على وجه الأرض، وفجأة تذكرت بيت الشعر القائل: إذا لم يكن من الموت بد / فمن العار أن تموت جبانا.

عندها اتخذت قرارا فدائيا لا رجعة فيه، وهو أن أخاطر بالنزول (وايش ما يكون يكون)، والغريب أن الشجاعة أتتني دون توقع، (فتشهدت) أولا - أي نطقت بالشهادتين - ثم سلمت أمري لله ثم لقدميّ، وما إن خطوت أول خطوة حتى (تكرفست) على رأسي الذي ارتطم بصخرة وسال الدم على جبيني، ولكنني تشبثت وقبعت مرة أخرى.

وكدت أيأس وأستسلم لولا أنني تذكرت أيضا ما قال طارق بن زياد: البحر وراءكم والعدو أمامكم، فنهضت وأنا أردد بيني وبين نفسي: الجبل يا مشعل وراءك والحياة أمامك، لا تكن (تشكن) (ثكلتك أمك)، فاستعدت شجاعتي مرة ثانية.

لا أريد أن أطيل عليكم، وأحكي لكم بالتفصيل المعاناة التي عانيتها حتى وصلت سالما للأرض، ومن هناك سرت ماشيا حتى وصلت للمنزل ومؤذن الفجر يقول: الله أكبر.

وما إن دخلت إلى المنزل حتى وجدت أهلي مستنفرين، وما إن شاهدوا الحالة المزرية التي كنت عليها حتى بادروني باستقبال لم أكن أتوقعه، فبدلا من أن يقولوا لي: الحمد لله على السلامة، بدأ التقريع وأقله: أكيد أنك كنت (صايع) طول الليل، أكيد أنك لففت على أولاد السوء وضربوك (علقة)، تستاهل يا قليل الأدب.

تركتهم كلهم دون أن أرد عليهم، وانطرحت على الفراش مغمى عليّ.

[email protected]