أوباما.. بأي رؤية للعالم الإسلامي عدت للبيت الأبيض؟

TT

من المعايير العلمية للأداء الإعلامي الجيد بأشكاله المختلفة (الخبر، المقال، إلخ) معياران رئيسيان: الآنية.. والأهمية. ولنطبق المعيار الثاني على مقالنا هذا.. فأهمية فوز باراك أوباما بفترة ثانية للرئاسة الأميركية ليست «سواء» بالنسبة للعالم كله:

فالأميركي والروسي والصيني والعربي والأوروبي ينظرون إلى هذا الفوز من مناظير مختلفة، حسب أهمية الحدث بالنسبة لمصالح كل طرف، وقضاياه، العاجلة والآجلة.

بناء على هذا المعيار نسأل: بأي رؤية جديدة عاد أوباما إلى البيت الأبيض؟

هذا هو ما يهمنا في هذا الشأن: قضايا أمتنا ومبادئها ومصالحها.

نعم.. إن الناس قد خاضوا في أمور كثيرة من خلال هذا الحدث، ومما خاضوا فيه وتوسعوا أيما توسع عوامل وأسباب فوز أوباما بولاية ثانية. فقد يرجع هذا الفوز إلى أن الرجل قد انهمك في إيجاد فرص عمل لمليون ونصف مليون أميركي (مع أن معدل البطالة هناك لا يزال مرتفعا: صاعدا غير نازل).. وقد يكون السبب هو أن عقيدة منافسه (رومني) غير مسلم بها لدى الشعب الأميركي فهو (مورموني)، وهذه طائفة لها عقيدة تعدها الكنائس البروتستانتية الأميركية الرئيسية التي تدين بها غالبية الشعب الأميركي «منشقة» عن الديانة المسيحية، ثم إن رومني يتمتع بمقادير من الذكاء لا تثير إعجاب الشعب الأميركي.. ومن تلك العوامل أن أوباما يبدو أنه وفّى بوعده في لجم النزوع إلى شن حروب جديدة: تزيد صورة أميركا تشوها، وتزيد مديونيتها أرقاما فلكية. ومعروف أن حربي أميركا في العراق وأفغانستان قد كلفتا أميركا أكثر من أربعة تريليونات دولار.. ومن عوامل الفوز أن النساء الأميركيات انعطفن - لأسباب عديدة - نحو أوباما، وهو عامل أدى إلى فوز الرجل في الفترة الرئاسية الأولى.

ما علينا!!

فمهما يكن عدد العوامل ونوعها، فإن أوباما قد ظفر بفترة رئاسية ثانية.

والانتخابات الرئاسية الأميركية ونتائجها «شأن أميركي داخلي» في المقام الأول.

بيد أن لأميركا - بمقتضى ثقلها العالمي المتنوع - امتدادات خارجية مؤثرة في العالم: في هذه الصورة أو تلك.. بما في ذلك الوطن العربي، والعالم الإسلامي. وها هنا نعود إلى «معيار الأهمية» في الأداء أو الطرح الإعلامي.

حين فاز أوباما بالرئاسة الأولى ارتاحت أو استبشرت قطاعات بهذا الفوز في الوطن العربي والعالم الإسلامي.. لماذا؟.. إن الذين استبشروا لا يعرفونه، بغض النظر عن المفردات البلهاء التي كان يرددها البعض كدليل على القرب منه أو التقرب إليه.. عبارات مثل «أبو حسين»، إشارة إلى أن في عمود نسبه رجلا اسمه «حسين»!! لم يكن معروفا معرفة تدعو للاستبشار بمقدمه.. والراجح أن الميل العاطفي النسبي إليه كان معللا - موضوعيا - بالكراهية الشديدة المطلقة لمن سبقه، وهو جورج دبليو بوش الذي استفز العالم الإسلامي بتصرفاته الجلفة، وأقواله الاستعلائية المتعصبة، وبتعطشه لدماء المسلمين عبر أكثر من حرب وحملة.

على أن الاستبشار النسبي بمجيء أوباما انطفأ وخمدت جذوته على عجل.. والسبب أن أوباما في خطاباته الشهيرة في تركيا ومصر قد وعد المسلمين بأن يفعل لهم شيئا عادلا إيجابيا في قضيتهم الكبرى وهي فلسطين.

مثلا: في خطابه الشهير في القاهرة، قال الرئيس أوباما: «إن الاستيطان يجب أن يتوقف بصورة كاملة، لأنه يتناقض مع كل الاتفاقات السابقة، ومع عملية السلام، ومع حقوق الشعب الفلسطيني».

هذا القول ألغته مواقف إدارة أوباما من الاستيطان من حيث إن هذا القول لم يعزز بمواقف توقف زحف الاستيطان عند النقطة التي بلغها - لحظة نطق أوباما بتلك العبارة - تمهيدا لمنعه من التمدد في كل اتجاه.

بل حصل انقلاب رسمي أميركي مفاجئ وصاعق على ذلك القول لأوباما. فبعد هذا القول بقليل وصفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الاستيطان بأنه «غير مسبوق»، وهو تعبير يستعمل - في العادة - في وصف المبادأة العظيمة، والابتكار الرائع، والتنازل الكريم السمح، إذ لم تقصد هيلاري كلينتون ما يضاد هذه الأوصاف، لا تقصد - قط - أن الموقف الإسرائيلي الاستيطاني غير مسبوق في ظلمه وعدوانيته ورفضه للسلام، وإلا لمادت الأرض من تحت أقدامها، وأقدام جمهوريتها.. والدليل على أنها أرادت تمجيد الفعل الإسرائيلي أو مسايرته أن «أيباك» - أبرز وأقوى لوبي صهيوني في أميركا - أصدرت بيانا «زغردت» فيه لتصريحات هيلاري كلينتون. وقالت «أيباك» في بيانها: «إن استخدامها عبارة غير مسبوق في وصف الموقف الإسرائيلي يُعد اعترافا أميركيا رسميا بتعاون إسرائيل مع الجهود الأميركية لإحلال السلام».. ثم إن وسائل الإعلام الأميركية (المتصهينة) قد طارت بتصريح كلينتون كل مطار، وأثنت عليه أيما ثناء.

ثم تتابع التملص العملي من ذلك القول الذي تضمن بعض الحق والعقل.

بديهي: إننا لا نطالب أوباما بأن يكون «عربيا» أكثر من العرب، لكننا لا نقبل منه أن يكون «إسرائيليا» أكثر من الإسرائيليين. وإنما المراد - بعقلانية وعدالة وتواضع - أن يكون «وطنيا أميركيا» فحسب، بمعنى أن تتقدم حسابات الأمن القومي لديه، على حسابات الحركة الصهيونية – بشقيها: الأميركي والعالمي - وهي حسابات وطنية أميركية لم نرها، ولم نلمسها، ولم نشمها في هذا التبدل العجيب والتناقض الغريب بين القول والفعل.

إن هذا التناقض الظلوم المعيب قد لطخ - بطين سوء السمعة - صورة الولايات المتحدة الأميركية - من جديد - لدى الرأي العام العربي والإسلامي.

وقبل مغادرة هذه النقطة (الاستيطان الإسرائيلي والتوسع المجنون فيه) نقول: ثمة رؤيتان لهذا الاستيطان:

أ) الرؤية الفلسطينية العربية الإسلامية العالمية.. وخلاصة هذه الرؤية أن الاستيطان تمديد وتأصيل للاحتلال الأول لفلسطين، ومن ثم فهو باطل بموجب بطلان الاحتلال ذاته: باطل بحكم القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، والقرارات الدولية المتعلقة بهذا الشأن.

ب) الرؤية الثانية هي الرؤية الصهيونية التي لخصها إسحاق شامير - رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق – بقوله: «إن الاستيطان هو جوهر الصهيونية»، وهو قول اعتمدته الدولة العبرية من قبل ومن بعد، وطبقته ولا تزال تطبقه.

فأي رؤية من هذه الرؤى يختار الرئيس الأميركي باراك أوباما؟

نحن لا نبالغ فنطالبه بالانحياز إلى الحقوق العربية، ولا نقبل منه الانحياز إلى الباطل الإسرائيلي. إنما المطلوب منه أن يكون عادلا غير ظالم ولا جائر، وأن يكون مع (حرية) الشعب الفلسطيني، لا مع الطغيان والاستبداد الإسرائيلي.. ألم يمتدح أوباما وإدارته ما سموه «الربيع العربي» لأنه أطاح باستبداد عربي؟ فهل يُقبل من الذي فرح بزوال «الاستبداد العربي» أن يبقى على «الاستبداد العبري» ويدعمه بمجاراته في استيطانه وسائر مظالمه؟.. وما الفرق بين استبداد وآخر إذا كان المستبد به هو: الإنسان الفرد المسحوق، والشعوب المضطهدة؟!

لسنا ندري: ما هي الرؤية للعالم الإسلامي التي عاد بها أوباما إلى البيت الأبيض. بيد أننا ندري أن العالم العربي الإسلامي له مطالبه المحقة في هذا الشأن. ومن بين هذه المطالب:

1) أن الأميركيين ضائقون بصورتهم الشائهة لدى الشعوب العربية الإسلامية، وأن من أولوياتهم تحسين هذه الصورة وتجميلها، ومن حقهم أن تكون لهم هذه الأمنية، فليست هناك أمة عاقلة تفرح أو ترضى بأن تكون صورتها لدى الآخرين شائهة وكريهة.

لكن هذا المطلب الأميركي المعقول مقترن بمطلب عربي إسلامي معقول أيضا، وهو أن تجميل صورة أميركا يكون بـ«الأفعال» لا بالأقوال.. وإلا لو كانت الأقوال المعسولة تجدي - وحدها - في تجميل الصورة لأصبحت صورة أميركا جميلة لدى المسلمين منذ أمد بعيد، منذ أن عينت أكثر من إدارة أميركية مسؤولين أميركيين كبارا مهمتهم تحسين صورة جمهوريتهم عند العرب والمسلمين، لكنها مهمة باءت بالخيبة حيث إنها اعتمدت - فحسب - على الأقوال والتصريحات والتغني بالأمجاد السابقة للحضارة الإسلامية!!

ولنصعّد الصراحة فنقول: يا شيخ أوباما، لا يخدعنك قول بعض حلفائكم الجدد الآتين على ظهر الربيع العربي.. لا يخدعنك قول هؤلاء: «نحن كفيلون بتجميل صورة أميركا لدى الشعوب العربية المسلمة من حيث إننا نعرف مفاتحها كما أنها تثق بنا».. فكل من يحاول تجميل صورة أميركا وهي باقية على ما هي عليه من أخطاء وخطايا سيبوء بكراهية الشعوب نفسها التي ستنظر إليه على أنه منافق ومتزلف إلى أميركا على حساب مصالح وطنه وأمته ودينه.

2) المطلب الثاني للعرب والمسلمين هو: المواقف العملية المنصفة من الإدارة الأميركية تجاه قضية فلسطين والقدس.

3) المطلب الثالث هو: الكف الأميركي عن شن الحروب على العالم العربي الإسلامي.. ويسرنا أن نرحب بكلام أوباما بعد ساعات فوزه فقد قال: «إن حملاتنا العسكرية أصبحت من مخلفات الماضي، ولا حروب لأميركا في المستقبل».. وهذه بداية حسنة لعلنا نعرض لها في طرح قادم.