الحليف غير الموثوق!

TT

انهارت علينا الكثير من التحليلات العربية حول نتيجة الانتخابات الأميركية، وفوز باراك أوباما بفترة رئاسية ثانية، وكيف سيكون موقف الإدارة الجديدة من القضايا العربية الساخنة، وكانت النتيجة للبعض مفاجئة، أو أنها قد تأتي بجديد وغير متوقع خارج عن السياق، وقد كان كاتب هذه السطور في هذا المكان قبل أكثر من شهرين قد توقع هذا الفوز. المستغرب أنه بعد طول علاقة مع الولايات المتحدة، ومع تطور في المواقف وتغير في المعطيات، إلا أنه حتى الآن يخضع بعض العرب لعدد من الأوهام تجاه تلك العلاقة، التي تحسب من الجانب الأميركي بكثير من دقة ميزان المصالح، وتحسب من قبل كثير من العرب بميزان ضبابية العواطف وألوان التمنيات.

أستطيع أن أشير إلى عدد من الأوهام التي تحكم العلاقة في ما نعايش من أحداث في خمسة أوهام رئيسة، ولكنها ليست كل الأوهام.

على رأس تلك الأوهام ما هو نابع في التحليل من موقف لا معرفي يعتنقه بعضنا، يقارن السياق العام السياسي في ما لدينا على أنه مماثل لما عندهم، وهذا يحرف التحليل عن مقاصده، لعل واحدا من المؤشرات يغنينا، فلم تخض الانتخابات الأميركية، ولم يكن لها أن تخاض، على أساس عرقي أو مذهبي - كما يحدث في فضائنا - فالرجل الذي فاز يمثل عرقه فقط 14% من الشعب الأميركي، وقد عانى هذا العرق مرارة ثلاثة قرون من الاضطهاد والعبودية والإهمال حتى وقت قريب، أما مذهب الآخر الديني (المورمون) فهو أقلية، ضمن مذهب أقلي. لم يكن للعرق أو المذهب أي صدى في المعركة الانتخابية، فنحن أمام مجتمعات تخلصت من المواقف الذاتية إلى الموضوعية وتنظر إلى الخير العام لا العيب الخاص..

الوهم الثاني أن ساكن البيت الأبيض يستطيع أن يقدم حلولا تفرض على إسرائيل قبول ما لا تريد أن تقبل، وقد تقدم البعض بتفسير ذلك الاحتمال على وسائل إعلامنا بالقول إن أوباما لم ينتخب هذه المرة بأصوات الجالية اليهودية أو على الأقل لم تساهم تلك الأصوات في إنجاحه، على خلفية أن بنيامين نتنياهو قد أيد منافسه ميت رومني. هذا الوهم الذي يراد به أن تغطي عيون العرب بعض الغشاوة، لا يقنع من يعرف أن العلاقة الإسرائيلية - الأميركية ليست قائمة فقط على أصوات أو مصالح اليهود الأميركان، هناك ثقافة عامة واسعة بين قطاعات كبيرة في المجتمع الأميركي اسمها (الثقافة اليهودية المسيحية) وهي متجذرة في ما يعرف بالحزام المسيحي اليهودي في الولايات الوسطى والجنوبية، وبالتالي فإن تلك العلاقة تتجاوز عدد الأصوات لتبلغ مصالح واسعة. لذا، فإن أي توقع بأن تقوم الإدارة الأميركية الجديدة بالضغط على إسرائيل لصالح الفلسطينيين هو وهم يحتاج إلى إعادة النظر.

الوهم الثالث أن الولايات المتحدة تستطيع الآن تحت الإدارة الثانية لأوباما، أن تقوم بدور فاعل في الموضوع السوري، ومن يعتقد أو يتوقع أنها سوف تقود حربا أو تستخدم أدوات خشنة من أجل تغيير النظام في سوريا، فهو واهم أيضا. أولا لأن الجمهور الأميركي الذي ينتظر تحسنا في أموره الاقتصادية والمعيشية لن يرضى بمغامرات عسكرية أخرى، ثم إن أوباما نفسه بنى سمعته السياسية بتمثيل نفسه راغبا في السلام، ويسعى إليه دون توريط للقوة الأميركية الخشنة في مغامرات جديدة، وهو الذي قرر الانسحاب من العراق ومن أفغانستان رغم الثمن الباهظ الذي ترتب عليه دفعه من المصالح الأميركية بسبب تلك القرارات. قد تقوم الإدارة الجديدة في الدفع بتحالف دولي واسع، بما فيه أطراف عربية، لإيجاد مخرج لما وصلت إليه القضية السورية من انسداد، خاصة بعد أن تنامت قوى متشددة مشتركة في الحرب الدائرة، التي يمكن - إن استمرت على مسارها - أن تسقط سوريا كلها في أيدي متشددين يزيدون من إرباك الموقف، الذي هو مرتبك للغاية بالأصل. هذا يستدعي استخدام القوة الناعمة وإقناع أطراف دولية بالمشاركة في الحلول السياسية، ويعني ذلك استنفاد وقت يزيد من الضحايا.

الوهم الرابع هو الحيرة التي تنتاب بعض السياسيين في الدول المعتدلة - إن صح التعبير - من الموقف الأميركي الذي يبدو متناقضا تجاه المطالبة بالإصلاحات الداخلية، هل هي مع تلك المطالب التي ترى بعض القوى في تلك الدول أنها تعرض الأمن الوطني إلى الخطر، أم هي ضدها وتعضد اتخاذ مواقف جذرية وحلول، ربما أمنية، لتخفض سقف تلك المطالب، كما تعتقد بعض القوى المطالبة بالإصلاح.

أي إن هناك شكوكا عميقة لدى قوى الإبقاء على ما هو قائم من موقف الولايات المتحدة، كما أن هناك شكوكا عميقة لدى المطالبين بالإصلاح بموقف سلبي من أميركا للإبقاء على الوضع القائم، لأنه في نظر المجموعة الأخيرة يناسب مصالحها. حقيقة الأمر أن الطرفين في شكوكهما على غير رغبة في فهم المعلن في السياسة الأميركية، وهي قائمة على عدد من الافتراضات، من بينها الحث على المشاركة والاستيعاب الشعبي من أجل تقليل الاحتقان الاجتماعي والسياسي المشاهد في المنطقة العربية من جهة، والحفاظ على سلمية الحركات المطالبة بالإصلاح وبعدها عن العنف من جهة أخرى. أي إن المسطرة التي تقيس بها الولايات المتحدة تطور الأمور لا تقنع أيا من الطرفين اللذين يعيشان في بيئة ثقافية وسياسية مختلفة كل الاختلاف تقوم على معادلة سياسية أخرى، هي تهميش الآخر وعزله دون الرغبة في مشاركته واستيعابه.

من هنا، فإن التطور الذي سوف يظهر في بلاد الربيع العربي هو الذي سوف يحدد ما إذا كان متجها إلى معسكر الحضارة الإنسانية التي تحبذ المشاركة وتعلي من قيمة حقوق الإنسان وتحترم التعددية وتطالب بإدارة سلمية للتنوع الثقافي والعرقي والسياسي، وهذا ما سوف ترحب به السياسة الأميركية، أم هي تتجه إلى معسكر في طريق الاندثار وهو معسكر التسلط والاستبداد تحت شعارات سياسية أو دينية أو قومية متعصبة؟ وتلك ما سوف تعترض عليه الإدارة الأميركية.

الوهم الخامس يتمثل في أن الولايات المتحدة سوف تسرع لإعانة أنظمة قد تتعرض للخطر الداخلي أو الخارجي، لمجرد أنها حليفة أو لها مصالح استراتيجية معها. ثبت بالقطع أن تطور الموقف الأميركي في السنوات الأخيرة على غير تلك السكة، سواء في أفغانستان أو العراق أو حتى مصر التي كانت الحليف الأكبر. قاعدة المساعدة الأميركية - إن حدثت - تتناغم باطراد مع الاستقرار الداخلي، كلما كان الأمر مستقرا يمكن للولايات المتحدة أن تساعد، والعكس صحيح، وهو استقرار قائم على قدرة الدولة المعنية على احتواء المطالب الإصلاحية وبرمجتها، بحجم ما يكون من تخفيف التوتر الاجتماعي تستطيع الولايات المتحدة أن تساعد.

ما يمكن أن نستنتجه من السابق، ويتسق مع المنطق، هو أن الرئيس الأميركي، والإدارة ككل، تخضع سياسة الولايات المتحدة لمصالح، تختلط فيها المصالح المادية مع القيم التي تدعو إليها مع حساب الخسائر الاقتصادية والسياسية والأرباح في أي خطوة تتخذها، ومع التغير الكبير في مرحلة التحول في العالم والشرق الأوسط، يتعين علينا أن نعرف أن حل مشكلاتنا ينبع من داخلنا ولا نتعلق بأوهام المساعدة من جهة أو المواقف السلبية من جهة أخرى القادمة من الخارج. ما نحن فيه هو من صنع أيدينا، وما سوف نصل إليه في المستقبل سيكون النتاج الطبيعي لما نفعله اليوم. وقت الفعل الأميركي المباشر قد بدأ بالأفول، لم يبق لأي إدارة أميركية غير الاستخدام الناعم لقدرتها من أجل التأثير، وهو ناعم بمعنى قد يؤثر في النتيجة وقد لا يفعل.

آخر الكلام:

أحد أسباب استمرار نهر الدم في سوريا هو العجز العربي، الذي كان اندفاعه في البداية لحل المعضلة قائما على حسابات قصيرة النظر ومحدودة الأفق والتصور، وفهم خاطئ لتركيبة نظام مستبد، وما الإصرار على مندوب عربي - أممي للخروج من المأساة إلا وهم آخر، لقد ركب أزرار القميص في مواقع بعيدة عن فتحاتها فاستحال لبسه.