فلسفة الجغرافيا

TT

عام 1986 جاء الرئيس أمين الجميل إلى لندن في زيارة رسمية وأقام في فندق دورشستر. كنت أقوم بزيارته كل يوم، وكان من عادته أن يستطلع الآراء. سألني مرة عن نظرتي إلى العلاقة مع سوريا وهو في عز خلافه معها. كان جوابي أن في إمكان السياسة تجنب بعض التاريخ لكن ليس في إمكان أحد تحاشي الجغرافيا، لأن الجغرافيا ليست قرارا ولا خيارا.

في الماضي كانت سوريا تتذرع بأن المؤامرات على دمشق تأتي من لبنان، بسبب وجود عدد كبير من المعارضين السوريين. والآن يخاف لبنان أن تنتقل إليه العدوى من سوريا. وكذلك يخاف الأردن. وكذلك يخشى العراق. الجغرافيا ليست نقاشا وإقناعا.

أتقن النظام السوري لعبة الجغرافيا إلى أبعد حد ممكن. توغل في قلب لبنان وجعله جزءا تابعا من سياساته، يقايض به الأمم. نقل المواجهة من الجولان إلى جنوب لبنان. وأقام علاقة عازلة مع الأردن، فلا هو صديق عمان ولا هو خصمها. وكما لعب دورا مهيمنا في لبنان حاول دورا مماثلا في القضية الفلسطينية. وإذ حاول ياسر عرفات التفلت ذهب من يبلغه في دمشق أنه شخص غير مرغوب فيه. ومع ظهور حماس كمنافس جدي لفتح، سارع النظام إلى رعايتها.

وفي العراق تنوعت أدواره وتغيرت، بكل مهارة. من المشاركة في حرب الكويت إلى المشاركة في حروب بغداد. وكذلك تبدلت وتغيرت الأدوار مع الجوار التركي: من رعاية حزب العمال الكردستاني إلى طرد زعيمه إلى العودة لاستخدام الحزب ضد الصديق التركي الذي صار عدوا.

الجغرافيا لا تتحرك. لكن عناصرها تتبدل ورياحها تتغير وعواصفها تغير الاتجاه. الصورة الجغرافية من حول سوريا متقلبة: الأردن هو من يستقبل السوريين. ولبنان هو من يخاف عدوى الانقسام. والعراق هو من تحتاجه سوريا. وتركيا التي ألغت تأشيرات الدخول للسوريين تحاول الآن أن تحدد عدد النازحين. وحماس، بديلة عرفات والعرفاتية، جعلت عاصمتها السياسية في قطر.

ليس هذا ما تفعله الجغرافيا في سوريا وحدها. تغيرت وتبدلت في كل مكان عبر التاريخ. ولو دامت لغيرك ما اتصلت إليك.