الدستور صانع المعجزات

TT

انتهت اللجنة التأسيسية بمجلس النواب من وضع الدستور، سبق للشعب كله بكل أحزابه وجماعاته وطوائفه مناقشة مسودته الأخيرة واقترح نحو 7500 تعديل أخذت بها اللجنة. هكذا صدر الدستور بالتوافق بين الجميع. في البداية صدرت للدستور طبعة محدودة، استطاع أحد أبطال حكايتنا الحاج أحمد عبد الباري الموظف الكتابي في وزارة الصحة، الحصول على نسخة مجانية منها، أعطاها له عم عبده منصور الذي يعمل ساعيا في مجلس النواب المواجه للوزارة. عاد الحاج أحمد إلى بيته في حي السيدة زينب، وضع الدستور فوق النملية ثم دخل إلى غرفة نومه ليغير ملابسه، والنملية لمن لا يعرفونها من الجيل الجديد هي دولاب خشبي صغير يوضع عادة في المطبخ أو في الصالة في الشقق الضيقة، وتستخدم في حفظ الطعام والخبز وكل ما يخشى الإنسان من وصول النمل أو أي حشرات أخرى إليه. وهي جيدة التهوية نظرا لوجود شبكة من السلك الدقيق على فتحاتها.

خرج الحاج أحمد وحانت منه التفاتة إلى النملية فلم يجدها بل وجد مكانها ثلاجة «فريجيدير».. لم يصدق عينيه، من أين ومتى جاءت هذه الثلاجة ومن أتى بها، زوجته أيضا لم تصدق ما تراه، فتح الثلاجة فوجدها ممتلئة عن آخرها باللحم والسمك وأنواع كثيرة من الجبن والبسطرمة واللانشون والعصائر والمربات. في المساء كان الرجل وزوجته يقسمان أمام مقدمي البرامج في الفضائيات أن النملية تحولت لثلاجة عامرة في أقل من دقيقتين بغير فعل فاعل. كان لا بد من الاعتراف أن معجزة قد حدثت في عصر لا يعرف المعجزات، اتصل أحد المذيعين بأستاذ المعجزات في جامعة بنسلفانيا في أميركا فقال عبر المكالمة الهاتفية: إذا لم تكن وهما.. فهي بالفعل معجزة.. وتوقعوا أن تتكرر في مصر، فالمعجزات كالمصائب لا تأتي فرادى.

على الفور طلب المذيع من السادة المشاهدين أن يبلغوا البرنامج عن أي معجزة تحدث لهم فانهالت عليه البلاغات التي سنعرض لبعضها بعد قليل. اهتم المتحدثون في طول مصر وعرضها بما حدث باحثين عن سبب لهذه المعجزة، وهو اللغز الذي قام أحد المصورين في الاستوديو بحله.. لقد بدأت الحكاية بالحاج أحمد وهو يضع نسخة من الدستور الجديد على النملية فتحولت على الفور إلى ثلاجة عامرة.. الدستور هو الأصل والسبب في هذه المعجزة.

أحد موظفي مجلس النواب الإداريين كان أيضا من أوائل من حصلوا على نسخة من الدستور الجديد، عاد به إلى البيت فوضعه على «الطبلية» التي تذاكر عليها ابنته شيماء وابنه تامر. المسكين يدفع نصف دخله في الدروس الخصوصية ويحلم بأن يأتي اليوم الذي يجيد فيه ابنه الجمع والطرح ويحفظ جدول الضرب، كما يحلم بأن تعرف ابنته القراءة والكتابة بعد سنوات من حضور الدراسة بالإضافة للدروس الخصوصية. طلبت منه زوجته أن يترك لها فلوس الدروس الخصوصية بعد أن طلبها المدرسون بإلحاح فوعدها خيرا، قال ابنه: بابا.. أنا مش عاوز دروس خصوصية.. قل لي أي مسألة حساب وأنا أحلها لك.

بالفعل تحول الولد إلى عفريت في الحساب، الطفلة أيضا أمسكت بورقة من صحيفة قديمة وأخذت تقرأ منها بطلاقة، بعدها أمسكت ورقة وقلما تلبية لرغبة أبيها وكتبت طلبا لرئيسه في مجلس النواب يطلب فيه صرف الحوافز المتأخرة. لم تعد الناس في حاجة لجهد كبير لتعرف أن وجود نسخة من هذا الدستور في أي مكان كفيل بصنع معجزة.

على الطريق الزراعي مصر اسكندرية، أسرة تركب سيارة أجرة، رب الأسرة يعمل صحافيا أخذ معه نسخة من الدستور ليقوم بدراسته في الإجازة التي سيقضيها مع الأسرة في مدينة جمصة الساحلية. عند أحد المزلاقانات، تعطلت السيارة في اللحظة التي جاء فيها قطار اسكندرية السريع فاصطدم بالسيارة صدمة مروعة أطاحت بها نحو مائتي متر تقريبا، وبين ذهول الناس خرج أفراد الأسرة جميعا من حطام السيارة ولم يصب أي منهم بخدش واحد. أخرج الصحافي الدستور وقبّله ثم أعاده إلى مكانه في جيب الجاكت.

لا شيء يخفى في مصر، انتشر الخبر بسرعة سريان النار في الهشيم، وبدأت الحكايات الحقيقية والمخترعة تتوالى. المطبعة الأميرية أخذت تعمل ليل نهار لطباعة الدستور في أحجام مختلفة، عشرات ألوف النسخ تخرج من المطبعة لتختفي قبل وصولها إلى المكتبات ويقال إن النسخة وصل سعرها في بعض الأماكن إلى عشرين ألف جنيه، ولكن الحكومة تدخلت على الفور وقبضت على بعض الناس الذين أفرجت عنهم النيابة ولم توجه لهم الاتهام المقترح وهو حيازة نسخ من الدستور بطريقة غير دستورية. في ساعات كانت المطابع في قبرص وبيروت والأردن تقوم بتهريب عشرات ألوف النسخ إلى مصر، الطريف في الأمر أن نفس الدستور كان عاجزا عن صنع أي نوع من أنواع المعجزات في هذه البلاد، كان من الواضح أنه يقوم بصنعها من أجل المصريين وعلى أرض مصر فقط.

صدر قرار وزاري بإعطاء كل وزير خمسة آلاف نسخة (عشرة آلاف للوزارات السيادية) لتسهيل عملهم، قال وزير التربية والتعليم: ربنا عارف بحالي.. يا ما أنت كريم يا رب. ثم أمر بوضع نسخة من الدستور في كل فصل دراسي وهو ما جاء بنتائج مبهرة. ثار المدرسون على الوضع الجديد وحاصروا مبنى الوزارة مطالبين بإقالة الوزير الذي صمد في بطولة ثم خرج إليهم وقال: ما تخلونيش أتكلم.. أنا كنت مدرس زيكم وعارف الحكاية.. حرام عليكم خفوا شوية على الناس.. الناس مش لاقيه تاكل.. يعني إيه طفل في أولى ابتدائي ياخد درس خصوصي؟

وزير الصناعة أرسل على الفور عشر نسخ لكل مصنع من تلك المصانع التي تلقي في النيل بكل مخلفاتها السامة، كل مصنع وضع نسخة من الدستور في كل ماسورة، بعدها بدقائق تحولت هذه المياه بما فيها مياه الصرف الصحي إلى مياه نقية تصلح للشرب. أما بقعة السولار التي ظلت لأيام طويلة تؤرق المحافظات الواقعة على نهر النيل، والتي أرغمتهم على قطع المياه عن الناس لأيام طويلة، فقد وضعوا في مواجهة هذه البقع عددا من نسخ الدستور فذابت هذه البقع وتحولت إلى عصير قصب على حد وصف أحد مسؤولي وزارة البيئة.

على جبهة السياسة، حدثت مليونية تطالب بعدم استخدام الدستور في عمليات تتسم بالدجل كما أعلنت عدم تصديقها لكل هذه الحواديت واتهمت الإعلام بأنه يتاجر بمتاعب الناس ويصور لهم أن متاعبهم لا يمكن حلها إلا من خلال معجزات.

أنا شخصيا لست أنكر إمكانية حدوث معجزات من هذا النوع، لقد أنهكت النخب المصرية أنفسها إلى درجة لا يمكن تصورها لصنع هذا الدستور، نحن الآن أشبه بفريق كرة قدم أنهك نفسه في التدريبات إلى الدرجة التي عجز معها عن الاشتراك في أي مباراة، فكان لا بد من حصول هذه المعجزات.. أمال حانعيش إزاي؟

عندما تعجز الناس عن الفعل الصحيح فوق الأرض، أليس معنى ذلك أنهم في حاجة إلى معجزة.. أو ينتظرون معجزة؟