السرطان الفكري

TT

فجأة تحول وجود عصابات مجاميع التطرف في جمهورية مالي بالشمال الأفريقي إلى إحدى أهم القضايا الأمنية للمجتمع الدولي، فهناك مجاميع متطرفة وإرهابية «احتلت» الجزء الشمالي من مالي، «وأعلنت» استقلالها لتقيم على هذه الأراضي «المحررة» دولة جديدة و«إمارة» إسلامية مستقلة.

وطبعا هذا الوجود من هذا النوع ليس شاذا، ولم يعد استثناء؛ فقد قامت مجاميع شبيهة بالإعلان عن نفس الأمر في مناطق مختلفة من اليمن، وهناك اتجاه لعمل الشيء ذاته الآن في شبه جزيرة سيناء بمصر، وكذلك الأمر في بعض المناطق بليبيا، وطبعا في جنوب تونس كذلك.

فكر إرهابي بامتياز، يوجه بنادقه ورصاصه لقلوب وصدور المسلمين، ويحصد أرواحهم تباعا، باسم «نقاء» الدين وتكفير المجتمع، برفع الأعلام السوداء ذات العبارات والشعارات الدينية الجذابة، وينتج المواد الإعلانية من مواقع إلكترونية ومقالات وكتب وأناشيد وأفلام وأخبار، لأجل أن يكون له خطابه الإعلامي الذي به يستطيع الإيقاع بالشباب لضمهم تحت عباءة التنظيم بأهداف «جميلة» في ظاهرها، ولكنها مدمرة في حقيقتها.

والشيء المذهل هو ظهور هذا الفكر وجماعاته في دول محسوبة على الإسلام السياسي، الذي وصل إلى سدة الحكم بعد تبعات الربيع العربي، ولكن هذه الجماعات تطلق شعارات خطيرة تكفر فيها حتى من يحكمون باسم الإسلام، فهي على قناعة بأنهم ليسوا فقط الفرقة الناجية، ولا حتى خير أمة أخرجت للناس، ولكنهم أقرب إلى شعب الله المختار في قناعتهم بأنهم «وحدهم» يملكون الحق الحصري في فهم الدين، والحق الحصري في فهم مقصد الشارع والشريعة، والحق الحصري في تصنيف الناس بين مؤمن وزنديق. فهم يعترضون على الدستور وشروطه، وعلى رأي الأزهر الشريف وشيخه المبجل، ويعتقدون أن لا أحد - إلا هم - يستطيع حماية الشرع والدين.

وطبعا لا يخلو الأمر من حمى الفتاوى والآراء المصاحبة لهذه الجماعات بحجة دعم موقفها الشرعي، وهذه الفتاوى تتفاوت بين ما يمكن أن يوصف بالجدي والحقيقي، والساخر والأحمق، مثل الفتاوى التي أصدرتها التيارات المحسوبة على هذا الفكر من مصر، وإحداها كانت تقول بوجوب هدم تمثال أبو الهول والأهرامات، لأنها جميعها أوثان يجب الخلاص منها، ونسي هذا القائل بتلك المسألة أن الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه، الذي فتح مصر، ترك كل ما رآه من تماثيل وآثار على ما هي عليه، وكذلك فعل الصحابة والولاة والخلفاء من بعده.

ورأي آخر يحذر، وينذر، من أن يبارك الرئيس محمد مرسي لبابا الأقباط في مصر، أو أن يحضر مراسم ترسيم الرجل في منصبه، وأنه بذلك سيكون مخالفا للدين يستوجب عقوبته، متناسين أن مصر فيها أقباط منذ فتحها، وأوصى سيد الخلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بهم خيرا، كما جاء في الحديث الشريف، وكذلك فعل الخلفاء جميعا، فأي نوع من الجفاء وسوء الأدب يدعو إليه؟!

كلما استمعت لهذه الأطروحات وغيرها من الجدليات «السطحية» العجيبة، أفرك عيني وأنا غير مصدق أنهم ينتمون إلى نفس الدين الذي أنتمي إليه، ويدعو للوسطية وحسن الظن والتسامح والدعوة بالتي هي أحسن. ولكن مساحات التطرف والإقصاء والتصنيف والتشكيك والتكفير موجودة وبألف خير، فالبرامج التلفزيونية المملة لا تزال تبث، ومن خلالها يُروج للآراء الشاذة التي تقسم المجتمعات وتولد الشكوك والقلق والريبة، وكذلك الأمر بالنسبة لما يطبع وما يدرس وما يخطب به من على المنابر.

العالم الإسلامي حتى هذه اللحظة لم يقم باتخاذ «القرارات المؤلمة» بتطهير بعض أمهات الكتب وبعض الكتب شبه المقدسة في التراث التي تحتوي على آراء «خطيرة» بحق العقائد وآداب التعامل مع المخالف، حتى ولو كان هذا المخالف من ذات الطائفة، ولكن من مذهب آخر، فهو لا يسلم من الأذى ويناله النصيب المتاح له.

فالأساس في أسباب وجود هذا الفكر التكفيري وأتباعه هو وجود الأرضية الفكرية الكافية لزراعة هذا الشر في عقول الناس والترويج له على أنه من أسباب خلاص الأمم ونقاوتها وطهارتها.

ألمانيا وبعد الخلاص من أدولف هتلر والرايخ الثالث والحزب النازي أخذت قرارا مفصليا ومهما، وهو القضاء على كل ما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالفكر النازي، فبدأت بحظر ومنع وتجريم وحذف كل المقتطفات المؤثرة والمحفزة على تكوين انتماء أو حتى تعاطف مع النازية بأي شكل من الأشكال، إلى درجة أنهم حظروا الاستماع إلى أعمال الموسيقار الكلاسيكي الألماني «فاغنر»، لأنه كان الموسيقار المفضل لأدولف هتلر الزعيم الألماني النازي، وكان هناك اعتقاد لدى البعض أن موسيقاه «تلهم» الفوهرر هتلر.

استئصال من الجذور، وتطهير «كيماوي» للسرطانات الفكرية المدمرة هذه. آفة التكفير هي مسؤولية المجتمعات الإسلامية أولا، وهي المطالبة بالدفاع عن روح دينها منهم، قبل أن تتدخل الأمم والشعوب من حول العالم لتبني هذه القضية واستخدام كل أشكال القوة لتحقيق ذلك.

[email protected]