حان الوقت لتغييرات جوهرية في المعايير المهنية والثقافة

TT

إننا بحاجة إلى إصلاح النظم المالية حتى يمكننا تحقيق نمو مستديم في قطاع الأعمال مرة أخرى. وفي الواقع، يتم تطبيق جميع الحلول القائمة على السوق أو الحلول التنظيمية، أو يتم النظر فيها حاليا، في إطار التعامل مع الأزمة المالية، ولكن التشريع لم ولن يتمكن وحده من القضاء على المشاكل الأساسية. إن زيادة نسب رأس المال، والحد من الاقتراض، وتضييق تعريف رأس المال (لاستبعاد الديون الثانوية)، والحد من مخاطر الطرف المقابل، ومتطلبات السيولة الجديدة وحدها لن تكون كافية لحل الأسباب الجذرية للمشكلة من دون تغييرات كبيرة في المعايير المهنية وثقافة الأعمال. في الحقيقة، يمكن سن القوانين ولكن لا يمكن إيجاد تشريعات لتغيير الثقافة.

وقد أثار انتباهي حدثان مهمان في بريطانيا خلال الأسبوع الحالي، وسيكون لكل منهما تأثير كبير على الثقافة المالية للعاصمة البريطانية لندن باعتبارها أحد أهم المراكز المالية في العالم، مما يساهم في بناء توافق جديد في الآراء ووجود قدر كبير من الثقة. الحدث الأول هو تعيين روجر جيفورد عمدة للندن في نهاية الأسبوع الماضي، ليصبح العمدة رقم 685 في تاريخ العاصمة البريطانية.. يذكر أن أول عمدة للندن قد تم تعيينه عام 1189.

وفي العصر الحديث، يتم انتخاب عمدة لندن على أساس سنوي ليشغل منصبه لمدة عام واحد، وهو منصب غير مدفوع الأجر وغير سياسي. ويقضي العمدة نحو 90 يوما للترويج للمدينة بالخارج والقيام بعدد من الزيارات التي تركز على الأعمال التجارية إلى مناطق مختلفة داخل المملكة المتحدة، ويوجه خطابات لنحو 10.000 شخص كل شهر، ويلقي نحو 700 خطاب في العام. وعلاوة على ذلك، يستضيف عمدة المدينة عددا كبيرا من الزيارات التي تقوم بها شخصيات أجنبية سياسية وتجارية مهمة، كما يقوم بتقديم المشورة إلى الحكومة البريطانية في ما يتعلق بوجهات نظر الشركات الموجودة في المدينة.

يذكر أن العمدة الجديد، جيفورد، قد قضى معظم حياته المهنية في العمل في مصرف «إس إي بي» الذي يعد واحدا من أكبر المصارف في السويد، حيث كان يقوم بإدارة عمليات المصرف في لندن. ويعد جيفورد هو أول مصرفي يشغل منصب عمدة لندن منذ ما قبل الانهيار المالي. ولم يأت هذا العمدة من الخدمات المصرفية الاستثمارية والتزامات الدين المضمونة وأنشطة «المقامرات»، ولكنه يعتبر نفسه «مصرفيا يستمتع بعمله الروتيني» بعدما قضى 30 عاما في المصرف السويدي الذي يحظى بثقة كبيرة. وفي إطار حديثه عن المشكلات المصرفية التي حدثت في الآونة الأخيرة، أشار جيفورد إلى أن المصارف سوف تتعافى بكل تأكيد، مضيفا أن «إعادة التأهيل تستغرق وقتا ولكنها ستحدث حتما لأنها جزء طبيعي من الدورة التي تمر بها المصارف. ترتكب الصناعة أخطاء قاتلة وأخرى تافهة، ولكن 95 في المائة من الناس يقومون بوظائف عادية جدا».

ولكن ما هو الشيء الذي سيتحدث عنه عمدة لندن في العديد من البلدان التي سيسافر إليها خلال الاثني عشر شهرا المقبلة؟ أعتقد أنه سيقول: «عندما يكون الناس بحاجة إلى الخدمات المالية، فإن لندن تعد مكانا رائعا لمثل هذه الخدمات. ولا يقتصر الأمر على لندن وحدها، ولكن هناك مجموعة كبيرة من العوامل الأخرى، مثل سيادة القانون في بريطانيا وتوفر عنصر المساءلة، وعناصر أخرى مثل خدمات النقل البحري».

وخلال العام الماضي، رأينا حركة «احتلوا لندن» وهي تقيم مخيماتها حول العاصمة البريطانية، وكان الشيء المثير للاهتمام حقا هو أن عمدة لندن يرى في ذلك نقطة إيجابية، على الرغم من الاضطرابات الشديدة التي تسببت فيها الحركة، حيث يقول: «لم يكن هذا جيدا من حيث قيام الحركة بنصب مخيماتها حول المدينة، ولكنه لم يكن سيئا لأن ما حدث قد أعطى زخما كبيرا للمناقشات الدائرة بشأن طبيعة الرأسمالية القادمة، ولا يزال هناك مناقشة مفتوحة في هذا الشأن. ولكن ما الشكل الذي يتعين أن تكون عليه الرأسمالية؟ والإجابة بالطبع أن هذه الرأسمالية تحتاج إلى حدود وأطر تحكمها، وأعتقد أن العديد من دول العالم تنظر إلى لندن لترى كيف نقوم بحل هذه القضايا الصعبة، مثل التعويضات ومدى السماح للمؤسسات ببيع ما تريد بيعه، وما هي القيود التي يتم فرضها على الميزانيات العمومية، بحيث لا تشكل خطرا على المجتمع».

ولا يقوم المصرف الذي عمل به جيفورد لمدة 30 عاما بصرف حوافز ومكافآت - إلا نادرا - ويعد المصرف الوحيد الذي يعمل على دعم الصناعة في السويد، ولا يعمل من أجل مصلحته الخاصة فقط. وسيخصص جيفورد جزءا من خطاباته العام المقبل للحديث عن دور المصارف في خدمة المجتمع، وستكون هذه القضية محور العديد من المناقشات في المستقبل.

أما الحدث الثاني الذي أعتقد أنه سيكون مهما للغاية في إصلاح الرأسمالية، فهو الإعلان عن أن رئيس أساقفة كانتربري المقبل سيكون جاستين ويلبي.. يذكر أن رئيس أساقفة كانتربري هو الزعيم الرئيسي لكنيسة إنجلترا، والزعيم الرمزي لها في جميع أنحاء العالم.

ويملك ويلبي خلفية وخبرات غير عادية لرجل دين، فقبل أن يصبح كاهنا عام 1990، كان يعمل أمين صندوق في مجموعة «إنتربرايز أويل» للتنقيب عن النفط، وهو عضو أيضا في اللجنة البرلمانية للمعايير المصرفية التابعة للحكومة البريطانية والتي تقوم بالتحقيق في فضيحة التلاعب بمؤشر أسعار الفائدة الرئيسي «ليبور» والتحقيق في الدروس التي يمكن تعلمها في ما يتعلق بحوكمة الشركات والشفافية وتضارب المصالح وآثارها على التشريع وسياسة الحكومة. وسوف يستمر رئيس أساقفة كانتربري الجديد في تطبيق الخبرات التي اكتسبها للقيام بإصلاح المعايير المصرفية. ومن المرجح أن يكون ويلبي هو بطل الإصلاح المصرفي وشخصية بارزة للغاية في المناقشات التي تتعلق بأخلاقيات العمل.

ويعتبر عمله في اللجنة البرلمانية للمعايير المصرفية امتدادا واضحا للأعمال السابقة التي قام بنشرها، والتي تتعلق معظمها بالجوانب الإيجابية والسلبية للتمويل والإدارة.

وبعد 11 عاما من العمل في مجال النفط، استقال ويلبي عام 1992 لكي يتفرغ لعمله ككاهن، وأصبح مفاوضا ماهرا يعمل على حل الصراعات في نيجيريا وغيرها من البلدان الأفريقية. وعمل أيضا عن كثب مع رئيس أساقفة كانتربري الحالي روان ويليامز، كمبعوث خاص له إلى أفريقيا، في محاولة لبناء الوحدة بين الطوائف المسيحية والمسلمة في نيجيريا. إنه يولي أهمية قصوى للاستماع ويحظى بثقة كبيرة للغاية من جانب مجموعة واسعة من الجهات في القارة السمراء. إن فهمه للإسلام قد عزز الحوار بين الديانتين، إلى درجة أن بعض القادة المسلمين يتحدثون إليه، عندما لا يرغبون في الحديث مع غيره من الغربيين.

وقال مدير قسم الاستقرار المالي بمصرف إنجلترا، أندرو هالدين، الأسبوع الماضي إن المصارف البريطانية في طريقها لتطبيق نظام مصرفي «أكثر إفادة للمجتمع»، بعدما أصبحت هذه المصارف محط اهتمام وغضب العامة بسبب الأزمة المالية.

وفي حديثه لاجتماع تم تنظيمه من قبل حركة «احتلوا لندن» التي تسعى لتصحيح النظم المالية ووضع حد لعدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية، قال هالدين إن الحركة قد لعبت دورا مهما للغاية في تغيير المواقف، مضيفا: «أود أن أؤكد أننا في خضم هذا الإصلاح المالي».

إن تعيين زعيم ديني بهذه الخلفية المالية الهائلة وسجله الحافل في مجال الوساطة بين الفئات المتخاصمة، في الوقت نفسه الذي يتم فيه تعيين عمدة جديد للندن يتمتع بقدر كبير من الانفتاح في ما يتعلق بالإصلاح المصرفي، من شأنه أن يضفي إيجابية كبيرة على هذه التغييرات الثقافية. لقد حان الوقت للقيام بتغييرات جوهرية في المعايير المهنية والثقافة، كما بدأت لندن تشهد بعض التغييرات المهمة والتي تؤثر تأثيرا إيجابيا للغاية، وهو ما قد يكون مفيدا في بداية نمو مستديم في قطاع الأعمال مرة أخرى.

* أستاذ زائر في كلية لندن متروبوليتان للأعمال، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة «ألترا كابيتال»