زمن الهول

TT

كان كل شيء جميلا وجذابا ومحركا للعواطف، أو الآمال: فلسطين محررة من البحر إلى النهر. اليمن الجنوبي يتعلم في المدارس أفكار كارل ماركس. جعفر النميري يخطب، بكل قواه، عن «الماركسية العلمية». أحمد سعيد ينافس أم كلثوم في ساعات السماع وعمق الطرب. كارلوس يخطف وزراء النفط في فيينا ويتلقى التهاني (والأجر) من صاحب «النظرية الثالثة» في إنقاذ البشرية. الطائرات الإسرائيلية تتساقط كالحشرات. الإمبريالية على الأرض. العراق رابع قوة عسكرية في العالم. البعث (العراقي) وصل إلى موريتانيا. الزمن الأقوى عائد إلى دمشق والعباسي إلى بغداد. ومن يدري، فقد نكمل الطريق إلى الأندلس.

في الطريق إلى الأندلس نسينا تفصيلا بسيطا: الإنسان العربي. انتهى كارل ماركس مذبوحا في عدن في حرب قبلية بين الرفاق. وبعد خطب النميري عن «الماركسية العلمية» قام بذبح أكبر حزب شيوعي في العالم العربي. وأسقط الجيش المصري في ثلاثة أيام من عبور أكتوبر (تشرين الأول)، من الطائرات الإسرائيلية أكثر مما أسقط في كل الحروب. ثم تراجع عندما تجمعت عليه كل قوة أميركا العسكرية وكل البلادة السوفياتية المعتادة.

إننا نتأمل اليوم حال الإنسان العربي في مصر وسوريا والعراق وليبيا والسودان. ربع مواطنيها مهاجرون في بلدان الإمبريالية والرجعية. وأكثر من مائة ألف سوري في الخيام عند «التركي العثماني». وكل طاقات وثروات بلاد ما بين النهرين وسهول الخصب في سوريا لم تحقق نموا اقتصاديا يقارب النمو في ماليزيا.

المشكلة لم تكن في الخطب، ولا في الوعود، بل في الخداع، خداع النفس أولا. وكانت تخدير المواطن والوطن: الفقر لقاء الكرامة. فإذا النتيجة بعد نصف قرن فقر وذل في الداخل والخارج. وفوقهما خراب بلا حدود. وفساد تبدو بعض أرقامه بعيدة التصديق. فالبنك الدولي يقول: إن حجم الفساد في دول «الربيع العربي» بلغ ألف ألف مليار. ولكن مما نرى كل يوم صار كل شيء قابلا للتصديق. لم تعد كلمة الهول للتعجب بل للبكاء.

سادت في القرن الماضي نظرية تقول: إنه يجب الخلاص من «النظام الرجعي» العربي لكي يسهل تحرير فلسطين، وفيما عاش الفلسطينيون في مخيمات الدول التقدمية عاشوا مواطنين في دول الخليج. وطردهم الثوري معمر القذافي إلى الصحراء في ليبيا. وبينما خطف كارلوس وزراء النفط في اجتماعات الأوبك، كانت الشركات الأميركية تقوم بأعلى ضغط على حكومتها من أن أميركا سوف تخسر العالم العربي. وكانت تحذرها من أن الخطر النفطي قريب ولا مزاح في الأمر. كل ذلك تاريخ الآن. لكننا نكره قراءة التاريخ.