سعي أوباما وراء العظمة

TT

في ليلتي انتخابات تاريخيتين في شيكاغو، كان وجه باراك أوباما يفصح عن القصة؛ فقبل 4 أعوام في حديقة «غرانت بارك»، كشفت رصانة تعبيراته، بعد أن اعتلى المنصة، عن رجل يشعر أخيرا بثقل التوقعات الملقاة على عاتقه، وبينما كان أنصاره يبكون ويضحكون ويتمايلون فرحا، كانت ملامحه تعكس المسؤوليات التي سوف يحملها قريبا وهو رئيس للبلاد. وفي يوم الثلاثاء الماضي داخل مركز «ماكورميك بليس» للمؤتمرات، كان شعره قد غزاه الشيب، وبدت التجاعيد على بشرته، ولم تكن حشود الحاضرين بمثل هذه العفوية والتلقائية، إلا أن وجهه كان ينم عن إحساس لا يُصدق بالفرحة يتجاوز مجرد الشعور بالارتياح لفوزه بفترة ولاية ثانية.

وفترات الولاية الثانية غالبا ما تجلب مجموعة جديدة من الإحباطات بالنسبة للرئيس، عقب ظهور قوانين تناقص الغلة والبطة العرجاء، إلا أن التاريخ يبين أيضا أن المدة الثانية مطلوبة من أجل خلق عظمة الرئيس، أو إقرارها - وبهذا المعنى، فإن أوباما ليس مترددا بخصوص طموحاته. فمنذ أن فكر لأول مرة في أن يكون رئيسا، وهي فكرة جاءت إليه في توقيت متأخر نسبيا مقارنة بمعظم رجال السياسة، كانت لديه رغبة في أن يكون رئيسا عظيما، وحينما خطا فوق المنصة ليلة الثلاثاء الماضي، أدرك أن لديه تلك الفرصة، حيث إن إعادة انتخاب أوباما ترسخ ماضيه وتفتح الطريق أمام مستقبله، والهزيمة بعد مدة واحدة كانت ستغير إلى الأبد معنى كونه أول رئيس أميركي من أصل أفريقي.

ويقال إنه عند إنشاء «دوري البيسبول الرئيسي»، كانت إقالة فرانك روبنسون من منصبه كأول مدير فني أسود خطوة نحو المساواة لها نفس القدر من الأهمية التي كان يمثلها تعيينه في هذا المنصب. ولكن فيما يتعلق بالرئاسة، التي تكون فيها الفرص أعلى بكثير والصدى التاريخي أعمق بكثير، فإن هزيمة أوباما كانت ستجلب مقارنات، سواء كانت عادلة أم لا، مع الارتداد العنصري إلى عصر الثورة الصناعية.

وقد كان الانتماء العرقي بالنسبة لأوباما له أهمية، ولكنه لم يكن أبدا هو العامل المهيمن، فحينما عثر على هويته كأميركي من أصل أفريقي، فإن تفاصيل سيرته الذاتية منحته حساسية عالمية، وهو يمتلك فهما متطورا لمسألة الانتماء العرقي في أميركا، إلا أنه لا يقيم رئاسته على أساس هذه المفردات، وحقيقة أن إعادة انتخابه أكدت على إنجازات مدته الأولى، وخصوصا ضمان بقاء مبادرة إصلاح نظام الرعاية الصحية التي أطلقها على قيد الحياة، أكثر أهمية بالنسبة له من أي عواقب عنصرية للفوز أو الهزيمة.

وفي كثير من المراحل أثناء مدة ولايته الأولى، كان أوباما يعقد اجتماعات مائدة مستديرة مسائية مع المؤرخين في البيت الأبيض، وطبقا لكثير ممن حضروا هذه الاجتماعات، فقد كانت المناقشات متباينة إلى حد بعيد، إلا أن السؤال المحوري الذي كان أوباما يلح عليه هو: ما الذي سيتطلبه الأمر للوصول إلى عظمة دائمة، بعيدا عن لون بشرته؟ ولم يتم عقد مثل هذا العدد من الحلقات النقاشية الشهرية، إلا أن الرئيس تحدث مع هؤلاء العلماء عدد مرات أكثر مما مارس لعبة الغولف مع أعضاء الكونغرس (حيث بلغ عدد تلك النزهات 3 فقط من بين 104 أشواط لعبها الرئيس في ملاعب الغولف، وذلك طبقا لما ذكره مارك نولر، وهو مراسل صحافي محنك، وأول من تلجأ إليه فيما يتعلق بإحصائيات البيت الأبيض).

ونظرا لتعرض أوباما غالبا للانتقاد بسبب ممانعته الدخول في لعبة بناء العلاقات السياسية، فإن البعض قد يقولون إن سعيه وراء العظمة ربما كان سيفيده التنزه مع أعضاء الكونغرس أكثر مما أفاده الحديث مع المؤرخين، غير أن هذه ليست الكيفية التي يعمل بها هذا الرئيس، فرغم أن أوباما تقليدي وحذر في معظم النواحي، فإنه يسير بإيقاعه الشخصي غير المعتاد، وهو يتمتع بالثقة في فعل الأشياء بطريقته الخاصة، وأحيانا ما يبدو بطيئا قليلا في التحرك أو غير مبال أو مبالغا في الثقة أو فاقدا للتركيز أو متأخرا عن مجريات الأحداث، ثم يحدث شيء ما ليصبح فجأة غير متأخر عن مجريات الأحداث بل سابقا لها، وما كان يبدو غامضا يصير واضحا. وهو عادة ما يكتشف المكائد والأعمال التي تدور حوله بأسلوبه الخاص. والاتجاه الرائج الآن هو توجيه كل الإشادة فيما يتعلق بإعادة انتخابه إلى الفريق الذي أدار حملته الانتخابية بدقة تكنولوجية وكفاءة في تغيير مسار المباراة، ومن المؤكد أن هذا الفريق قد صنع العجائب، إلا أن الأمر في النهاية يعود دائما إلى طبيعة الرجل الجالس فوق القمة، فإذا كان قد أدار في بعض النواحي حملة صغيرة على نحو مخيب للآمال، فإن هذا كان خدمة لشيء ما أكبر.

وبعض الناس لا ينضجون أو يتكيفون، لكنهم فقط يزدادون ارتباطا بما كانوا عليه، لينتهي بهم المطاف إلى أن يصيروا صورا كاريكاتيرية لأنفسهم، أما أوباما فقد أبدى طوال حياته قدرة على التكيف، وعلى التعلم من تجاربه وأخطائه، وعلى أن يصبح أفضل مما كان. وأنا لا أتوقع أن يعمل في يوم من الأيام على رأب صدع الانقسامات الآيديولوجية داخل البلاد، أو أن يحمل الناس الذين يكرهونه على التوقف عن مطاردته وإدراك أن ما يرونه على أنه اختلاف يمثل تهديدا هو في حقيقة الأمر قصة أميركية جوهرية، ولا أتوقع أن ترضي جهوده من أجل العثور على أرضية وسط بشأن «الهوة المالية» والعجز الفيدرالي اليمين أو اليسار، ولا أتوقع منه أن يفتح قلبه تماما للصحافة؛ فإدارته مغلقة وواقعة تماما تحت السيطرة، إلا أنه يوجد لدي بالفعل إحساس بأنه سوف يواصل العمل على شق طريقه عبر المشكلات، بعقلانية، وواحدة تلو الأخرى، إلى أن تخلف إنجازاته علامة باقية على جبين التاريخ.

وفي وقت متأخر من ليلة الانتخابات، بعد أن تأكد فوز أوباما، جاء إلي مارك ليبوفيتش من صحيفة «نيويورك تايمز»، وهو صديق وزميل سابق في صحيفة «واشنطن بوست»، داخل المقر الإعلامي التابع لمركز «ماكورميك بليس» للمؤتمرات، وسألني إن كنت فخورا على مستوى معين بما حققه موضوع آخر سيرة ذاتية لي. فقلت له إنها لم تكن مسألة شخصية، فأنا لا تربطني بالرئيس أي علاقة شخصية على الإطلاق، حيث لم يسبق لي أن تجولت معه على متن الطائرة الرئاسية أو لعبت معه كرة السلة أو طلبت منه أن يشرح لي الأسرار التي ينطوي عليها الوجود في موقع الرئاسة، وكل ما فعلته هو أنني درست حياته وحاولت أن أستكشف ملامح شخصيته، وبذلك المعنى، فإن هناك إحساسا يخالجني حقا بالفخر لأجله، حيث أمكنني أن أرى المسار غير المألوف لحياته، وما تغلب عليه، وكل التناقضات التي حاول أن يحلها، وما كان يحترق بداخله، وما كان يسعى إليه، وهو ما قد يكون قد وصل إليه لتوه.

* خدمة «واشنطن بوست»