هل استعجل الإخوان قطف الثمار!

TT

للمرحوم الملك الحسن الثاني قول في مذكراته المنشورة وهو: «إن السياسة كالفلاحة لها مواسم». والسؤال: هل القوى الإخوانية في عدد من الدول العربية (وأنا أستخدم المفهوم هنا بشكل فضفاض) ينقصها بعض الفلاحين السياسيين بين صفوفها، حتى يعرفوا أن موسم «الإزهار» غير موسم «الإثمار»؟ الأول هو تباشير، أما الثاني فهو الغلة. أي هل تسرع الإخوان في تونس وفي مصر أوان القطف فصعدوا إلى قمة السلطة قبل أن تنضج الثمار؟ فقط الإزهار استعجلهم وتبين أن الثمر السياسي لم ينضج بعد. ويبدو أن هذا التوصيف قريب إلى المنطق، من خلال مشاهدة ما يحدث في كل من تونس ومصر، وقبلهما السودان، حتى لا ننسى تلك البقعة العربية!

مليونية تطبيق الشريعة في مصر الأسبوع الماضي المخبوء فيها أكبر بكثير من المعلن، فالمعلن أنه لا الإخوان ولا السلف خلف الدعوة لتلك المليونية لتطبيق الشريعة، إلا أن ما شاهده المراقب الفطن هو أن الكثير ممن كانوا في الميدان يصرخون بقوة للمطالبة بتطبيق الشريعة، يبدو عليهم التماثل مع تلك القوى ومع الشعار الإخواني السلفي الذي ردد كثيرا! في تونس تم الاعتراف بقوى شبه منظمة لقمع المعارضين، أي أن ما يجري على الأرض يظهر أن المحاولات التي تتبعها السلطة الجديدة هي إخفاء المراد وإعلانه من خلال أطراف أخرى تطالب بشعار عام ولم تصلهم بعد الفكرة الجامعة القائلة: أنى تحققت مصلحة الأمة فثم شرع الله.

القضية أعمق بكثير من التكتيكات التي تجري الآن، فقد كانت المسيحية الأولى قد نأت بنفسها عن السياسة، المسيح عليه السلام كان له برنامج اجتماعي، ولكنه لم يأت ببرنامج سياسي، وجاء مسيحيو القرون الوسطى وما بعدها ليلحقوا السياسة بالكنيسة، الأمر الذي ترتب عليه الكثير من الصراعات ودخلت أوروبا المسيحية في حروب «مقدسة» كلفتها أنهارا من الدم ووقائع منكرة، بعضها بقي حتى نهايات القرن العشرين، فيما عرف بالصراع البروتستانتي - الكاثوليكي في آيرلندا الشمالية، ولولا الإصلاح الديني وفك العلاقة بين الكنيسة والدولة لما وصل الغرب إلى الإنجاز الحضاري الذي تحقق.

الفكر الإسلامي مبكرا اختط الفرق بين السلطان والإمام، (الشريعة والخلافة) لم يعرف نظرية الحكم المختلط «الديني، المدني» في الوقت نفسه، كما أن التراث لا يسعف كثيرا في الحصول على نظرية في الحكم تتسق كليا مع المجتمع الحديث الذي يتصف بالتنوع والتغيير في آن، وفي وسط عالم لم يعد يعرف الفروق السابقة بين الثقافات ولا المسافات التي كانت تحجب الآخر أو تضفي على تجربته الظلال الكثيف.

يتصف التحدي الذي تواجهه القوى النشيطة في الإسلام السياسي العربي الحديث أنها لم تطور نظرية أو شبه نظرية للحكم الحديث الرشيد، لقد انكبت في السابق على تحدي الأنظمة الموجودة من خلال المزايدة عليها أمام جمهور في صلبه مشبع بالأفكار الإسلامية العامة، كانت تحرج تلك الأنظمة أمام جمهورها، ولكن لم تتوصل هي إلى وضع نظرية للحكم توائم بين التقدم الحضاري الذي وصلته الشعوب المتحضرة وبين أساسيات الدين ومبادئه الجوهرية، فاستغرق البعض في الهوامش والصغائر والأشكال الخارجية دون البحث في الجوهر، ولما وصلت إلى السلطة وقعت بين أكثر من نار، الأولى أن هناك قوى تزايد عليها في نفس ملفاتها وتسمى نفسها «سلفية» وهي متعددة الدرجات، والثانية أنها وضعت أدبيات لا تستطيع الفكاك منها بسهولة. من هنا هي تلجا الآن إلى «التقية» من خلال القول بالشيء ونقيضه في الوقت نفسه، الذي ينتهي بها إلى الارتباك بالنسبة لجمهورها في الداخل وبالنسبة لأتباعها يصرفها كليا عن إنجاز ما يتطلبه الجمهور العام من شعبها.

إن الطريقة التي تمارس والمعاني التي يحملها الناس والتفسيرات الدينية قد تكون متقاربة في إطارها العام، أما تفاصيل الحكم في سياقه المؤسسي، التي ترتكز اليوم على قواعد منها فصل السلطات، استقلالية القضاء، المساواة بين المواطنين، مرجعية الشعب بشكل دوري لاختيار حكامه، التبادل السلمي للسلطة، العدالة الاجتماعية، والتأكيد على الحريات العامة. كلها مفاهيم لم تستوعب بعد عند النخبة الحاكمة الجديدة بمعنى وضع تصور مؤسسي لها. أما السلطات الجديدة، فهي ثلاثة نماذج نعايشها اليوم، اثنان منها فاشلان هما الإيراني والسوداني، وثالث ناجح هو التركي. ولا أرى أن هناك توجها إلى النموذج الثالث لأن ذاك التوجه يحتاج إلى قناعات أولا وتصور فكري ثانيا لا يتوفر لدى جماعات الإسلام السياسي العربي الذين هم في السلطة اليوم. ذلك هو التحدي الأكبر.

لو عرف أتباع الإسلام السياسي أن ربيع العرب هو في مرحلة الإزهار وليس الإثمار لتريثوا في حمل وزر السلطة كاملة أو معظمها الآن، فقد اعتقد بعضهم أن الربيع قد أثمر فسارعوا إلى محاولة قطف ثماره وتبين لهم الآن أن التسرع لم يكن في مكانه. الأجدر أن يعيدوا النظر ويرجعوا الخطوات ويعملوا على تثقيف جديد يوائم بين المبادئ وحاجات الناس في العصر الحديث، وهذا يستدعي المشاركة لا الاستحواذ. كان الأجدر بهم بناء تحالف واسع مع عدد من القوى الوطنية تعبر بهذه المرحلة إلى بر الأمان بعد وضع أسس توافقية للدولة الحديثة.

هذا لم يتم ويبدو أن الإسلام السياسي في طريقه إلى تهميش الآخر ونبذه كما يفعل الآن مع البرادعي ومناصريه في مصر، هذا التوجه الاستفرادي يشي بصراع جديد وعدم استقرار طويل.

آخر الكلام:

قضيت هذا الأسبوع ثلاثة أيام في العاصمة العمانية مسقط، وحضرت بدعوة كريمة افتتاح البرلمان العماني في بيته الجديد والجميل، التجربة العمانية تسير صامتة في مسيرة إصلاح حقيقي، ومع الأسف لا يسبر الإعلام العربي إنجازات هذه المسيرة.