القيادة من الخلف

TT

العالم ينتظر إشارات حول اتجاهات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في الولاية الثانية له. هذه حقيقة تعكسها عشرات التحليلات والآراء التي صدرت خلال أيام قليلة بعد إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية، خاصة في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط والوضع الساخن في سوريا.

ومن المفارقات أنه في يوم واحد كتب محللان سياسيان؛ واحد في لندن، والآخر في واشنطن، وجهتي نظر متعارضتين بشأن الانخراط الأميركي في قضايا العالم؛ خاصة في الشرق الأوسط، ليعكسا حالة من عدم اليقين أو الجدل الدائر بشأن أسلوب السياسة الخارجية.. ففي مقالة في «واشنطن بوست» نشرتها «الشرق الأوسط» أمس، كتب الكاتب الأميركي ديفيد إغناتيوس عن اختبارات السياسة الخارجية التي تواجه أوباما، داعيا إلى التخلي عن النهج الحذر الذي اتبعه في رئاسته الأولى، الذي يوصف بـ«القيادة من الخلف» في ما يتعلق ببعض القضايا الملحة الخارجية، لتكون القيادة من الأمام، مشيرا بشكل خاص إلى الشرق الأوسط التي وصفها بأنها المنطقة التي يصنع فيها الرؤساء إرثهم ويذرفون دموعهم.

وفي الـ«إندبندنت» البريطانية، كتب الكاتب البريطاني صاحب الخبرة الطويلة في الشرق الأوسط باتريك كوكبرن، مستوحيا لعبة السلم والثعبان، قائلا إن هناك ثعابين أكثر من السلالم لواشنطن في المنطقة، وإنه في ضوء تعقيدات الوضع في منطقتي الشرق الأوسط وغرب آسيا فإنه من الأفضل للولايات المتحدة والقوى الأخرى الأجنبية البقاء بعيدة عنها.

واضح أن محور الجدل يدور حول أسلوب إدارة أوباما في ولايته الأولى للنزاعات الدولية ما بعد التورط في العراق وأفغانستان، الذي وصف بأسلوب «القيادة من الخلف».. وكانت ليبيا نموذجا لها تحت غطاء «الناتو» وبتدخل من على بعد وانسحاب سريع فور سقوط القذافي. ويقول منتقدو هذا الأسلوب إنه ساهم في خلق فراغ بعد سقوط النظام شغرته ميليشيات مسلحة غير منضبطة، وظهور جهاديين بأفكار متطرفة، بينما كان بالإمكان من خلال الوجود المباشر المساعدة في إعادة بناء قوات أمن الدولة الجديدة كما حدث في العراق وأفغانستان في إطار التدخل المباشر الذي ميز سياسة الرئيس السابق بوش، وكانت التكلفة الهائلة ماليا وبشريا وراء السياسة الحذرة لأوباما عندما دخل البيت الأبيض.

بالطبع، ينظر الجميع إلى سوريا التي وصل الحريق فيها إلى نقطة خطرة، كما يبدو، تهدد بامتداده خارج الحدود مع التداعيات الإقليمية والدولية الخطرة لذلك، وهل ستواصل الإدارة سياسة «القيادة من الخلف» تاركة لآخرين شركاء في الناتو أخذ دور القيادة على غرار ما حدث في ليبيا؟

إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كل أزمة تختلف عن الأخرى من حيث تداعياتها، يلاحظ أنه بالنسبة إلى سوريا وليبيا كان هناك شبه تماثل في طريقة رد النظام بالعنف المطلق على مطالب شعبية محلية تتعلق بالحريات والظروف المعيشية، لكن اختلاف الجغرافيا والتشابكات الإقليمية، والمخاطر، لا بد أن يجعل طريقة التعامل مختلفة، وهذا ما يفسر الحذر الأميركي والغربي في الفترة السابقة، وإعطاء النظام فرصا كثيرة لم يستغلها.

هل سيتغير ذلك؟ الشواهد تدل على أن ذلك يحدث منذ شهور، وأن هذا يعتمد بدرجة كبيرة على مقدرة قوى المعارضة والثورة على تقديم نفسها بوصفها كيانا مسؤولا قادرا على تجاوز الخلافات وتمثيل مختلف مكونات سوريا، وله وجود على الأرض، إلى العالم. وهذا سيحدد شكل وحجم الدعم الذي من المرجح أنه سيستمر بأسلوب غير مباشر، إلا إذا حدثت تطورات دراماتيكية على الأرض، ولا يتوقع أن تغير إدارة أوباما أسلوب «القيادة من الخلف» في الأزمات، الذي اتبعته في الولاية الأولى، لأن أولويتها هي الاقتصاد الأميركي.