السّمج

TT

المزاح قد يكون مقبولا إلى حد ما، لكنه إذا تجاوز الحد أصبح ممجوجا أو ممقوتا.. فلك كامل الحق أن تضحك وتسلي نفسك ولكن ليس على حساب الآخرين، إما بأن تورطهم أو تحرجهم أو ترعبهم.

وقد مر علي في حياتي الكثير من النماذج البشرية المختلفة، التي لا أتفق معها، لكنني قد أعذر بعضها إذا تبينت ظروفها، غير أن هناك نموذجا واحدا لم (ينزل لي من زور) أبدا. وهو من النوع (المزاح) بطريقة سمجة وثقيلة، وكان طوال حياته مستخفا بمشاعر الآخرين، ولا يهمه إلا أن (يبسط) نفسه، أما بعد ذلك فعلى الدنيا السلام. وسوف أورد لكم بعض حركاته السخيفة التي كنت شاهدا عليها، وسأبدأ أول ما أبدأ بنفسي، وذلك عندما كنت مستغرقا أقرأ جريدة واضعا رجلا فوق رجل ومطمئنا بأمان الرحمن، وفجأة وإذا بأوراقها تشتعل بين يدي، فهببت واقفا أتخبط، ومن حسن حظي أن اللهب لم يصل إلى وجهي، ورأيته وهو يخرج هاربا وضاحكا بعد أن أشعل الورقة بولاعته بهدوء من دون أن أفطن (ويا غافل لك الله).

وفي ليلة ليلاء لا أنساها، وكنا مجموعة من الأصدقاء خرجنا من المدينة إلى الصحراء كي نسمر ونتعشى، وحيث لا حمامات هناك، ذهب أحدنا لكي (يطير الشراب) - أي لكي (يتصيّر) باللهجة المصرية - أو لكي (يقضي حاجته) بالفصحى، وبينما كان مرتاحا وفي منتصف قضاء الحاجة، إذا بشبح يخرج عليه من خلف أحد الكثبان مرتديا أسمالا بالية وعليه قناع (دراكولا)، ولا أدري هل هو قطع قضاء حاجته بعد ذلك، أم أنه أكملها وهو (يرثع) صائحا من شدة الخوف، وكان يجري خلفه ذلك السمج قائلا له وهو يضحك: «تعال، تعال.. أنا (فلان) أمزح معك، لا تصير (قرقعانة)»، على حد تعبيره.

وفي إحدى المرات اتصل بي تليفونيا ليخبرني عن شخص أعرفه قائلا لي إنه مريض ونقلوه للمستشفى. وفي اليوم الثاني وبينما كنت متأهبا للذهاب للمستشفى لزيارة المريض، اتصل بي السمج قائلا: «ليس هناك داع لأنه الآن في غرفة الإنعاش وممنوع زيارته»، وفي اليوم الثالث اتصل بي في الصباح الباكر يعزيني، مؤكدا أن المريض قد مات، فلم أتمالك نفسي حتى أجهشت بالبكاء، وفي اليوم الرابع تفاجأت بجرس باب منزلي الخارجي يقرع، وما إن فتحته حتى كدت أقع مغشيا عليّ وأنا أجد نفسي وجها لوجه مع الميت مصحوب برفيقنا السمج وهو يضحك كعادته قائلا لي: «هاه مشيت عليك يا مغفل؟!».

وفي اليوم الخامس تحديدا وصلتني (بالفاكس) أغرب دعوة زواج تلقيتها في حياتي وهي كذلك من السمج، ومضمونها: «أتشرف بحضوركم لزفاف سيدتي الوالدة المصونة على الشيخ (فلان الفلاني)، والعاقبة لديكم في المسرات»، وجزمت بأنه يمزح كعادته قائلا بيني وبين نفسي: «على مين تلعبها يا شاطر»، فمزقت الدعوة ورميتها في صندوق الزبالة.

وفي اليوم السادس اتصل بي أحد المعارف قائلا لي: «إن السمج عاتب عليك جدا لأنك لم تحضر زواج والدته»، واكتشفت أنه لأول مرة في عمره كان صادقا، فوالدته المصونة تزوجت فعلا، وقد زفوها وهي تقهقه وتسطّح (!!).

صحيح أن من شابه (أمه) فما ظلم.

[email protected]