وصلت إلى الولايات المتحدة يوم التاسع من سبتمبر (أيلول) الماضي وكلي يقين أن الرئيس الأميركي باراك أوباما سوف يعود لفترة ثانية إلى البيت الأبيض. كان هذا الاستنتاج مبنيا على أسباب موضوعية وليس مجرد رغبات أو تمنيات، فعلى كل الأحوال وقد فاز أوباما في عام 2008 كأول رئيس أميركي من أصول أفريقية، فإن العبرة بعد ذلك تكون بالنتائج والقدرات. وفي الحقيقة، لم أكن ممن اعتبروا باراك أوباما رئيسا جيدا للولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط كما اعتدنا، لأنه بعد موجة من النشاط الذي بدأ بالخطب المثيرة تجاه العالم الإسلامي، والبداية القوية للتعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي، فإن كل ذلك سرعان ما خبا وهجه وانتهى لمعانه، وإنما لأنه فشل ببساطة في إخراج أميركا، ومن ثم العالم، من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تلم به.
كان أوباما خلال السنوات الأربع لرئاسته رجل البدايات القوية التي تبدأ بخطابات ربما هي الأقوى منذ عهد تشرشل، ولكنها سرعان ما تفقد قوتها، وسرعتها واندفاعها. ووفقا للمهتمين بالشأن الداخلي الأميركي، فإن صاحبنا لم يكن هو الرجل الذي ينجح في مد يده إلى المعارضة للحصول على توافق وطني حول سياساته، فكانت النتيجة أن معظم نجاحاته جاءت على حساب انقسام حاد بين الديمقراطيين والجمهوريين، وبعد أن نجح الجمهوريون في الاستيلاء على مجلس النواب، لم تعد هناك نجاحات تذكر. ليس معنى ذلك أنه لم يحقق بعضا من نجاح، مثل الخروج من العراق، وقرار الخروج من أفغانستان عام 2014، وقانون الرعاية الصحية، وإنقاذ الاقتصاد الأميركي من كارثة كبرى، بالإضافة إلى إنقاذ صناعة السيارات الأميركية وإدخالها مرة أخرى إلى سوق المنافسة العالمية. ولكن كل ذلك إذا ما قيس بالوعود التي أعطاها أوباما بالنسبة لعجز الموازنة، والعودة إلى معدلات أعلى من النمو، وتقليل البطالة، لم يكن كثيرا من النجاح.
ومع ذلك، فعندما وصلت إلى مدينة بوسطن الأميركية كانت الدفة، بلا جدال، لصالح باراك أوباما، وظهر ذلك في استطلاعات الرأي العام بفارق ثماني نقاط. كان لذلك أسبابه؛ فالرئيس الأميركي كانت لديه مزايا المنصب التي لم تجعله يدخل الانتخابات الحزبية التمهيدية، ومن ثم كانت خزانته عامرة بالأموال، ومتجنبا للانقسام الحزبي. ومن ناحية أخرى، فإن الرئيس دائما يحصل على دعاية مجانية لأنه مركز الأخبار والأنباء. على الجانب الآخر، فإن رومني خرج من الانتخابات التمهيدية مجروحا من يمين ويسار الحزب الجمهوري؛ فبالنسبة لليمين فإنه لم يكن محافظا بما فيه الكفاية، وبالنسبة لليسار فإنه كان آيديولوجيا أكثر من اللازم، وفي النهاية كانت لديه حزمة من المواقف التي كان عليه أن يدفع ثمنها غاليا فيما بعد، بعد أن دفع ثمنها بالفعل نقدا لكي يفوز بتمثيل الحزب، وفعليا بدخول الانتخابات العامة وهو يحاول لملمة أركان وأجنحة حزبه. ومن سوء حظه أن مؤتمر الحزب الذي عادة ما يكون هو المدخل للوحدة شهد في «تامبا» عاصفة اختصرت الزمن والدعاية.
مضى شهر سبتمبر وباراك أوباما في المقدمة، وعندما دقت طبول المناظرة الأولى في 3 أكتوبر (تشرين الأول) كان الاعتقاد هو أن أوباما لديه من الخبرة والبلاغة والشخصية «الرئاسية» ما يجعله يكتسح منافسه، وينهي السباق قبل موعده بشهر كامل تقريبا. ولكن المناظرة حققت تماما عكس ما كان متوقعا منها، حينما انتهت ورومني أكثر إقناعا كرئيس للجمهورية، ولديه من القدرات ما يكسب الجماهير، بينما ظهر أوباما مغرورا، غير مكترث، وعلى الرغم من بعض الضربات لخصمه، فإنه خسر المناظرة في النهاية.
وهكذا وجد الأميركيون أنفسهم ومعهم بديل حقيقي لساكن البيت الأبيض، واكتسب رومني قوة دفع كبرى ظلت معه، على الرغم من أنه وبفارق ضئيل فاز أوباما في المناظرتين التاليتين، إلا أن قوة دفع رومني جعلته يسير مناطحا إياه في استطلاعات الرأي العام بعد أن كان أوباما سائرا في السباق وحده.
خلقت المناظرة الأولى تغيرا نوعيا في السباق؛ فبعد أن كان أوباما رجل التغيير في انتخابات عام 2008، فإن رومني صار هذا الرجل في عام 2012. وفي شعب يعشق التغيير، فإن قول رومني إن أوباما لم يوفِّ بوعوده، وإن الشعب الأميركي لا يزال يعيش الأزمة الاقتصادية، وعندما تساءل عما إذا كان هذا الشعب على استعداد لكي يجرب أربع سنوات أخرى من نفس الحال، فإن التساؤل كان له صدى ورنين. ولكن كل ذلك لم يمنع أوباما من الفوز حتى بنسبة ضئيلة، لأن عددا من الأمور وقفت إلى جانبه، بعضها ارتبط بشخصه، وبعضها الآخر بظروف لم يكن يحلم بأن تأتي على هواه. ما كان لصيقا به ظل قدراته الشخصية في إلهاب الجماهير، خاصة بناء لتحالف واسع من الأقليات يضم المرأة والأميركيين من أصول أفريقية ولاتينية واليهود وصغار السن والمثليين، كلهم لديهم شكوك كبيرة في الجمهوريين.
وربما كان الأهم هو أن باراك أوباما كان هو نفس الرجل الذي كان عام 2008 من الناحية التنظيمية التي جعلت قدراته في دفع الناس إلى صناديق الاقتراع، خاصة في الولايات المتأرجحة، عنصرا حاسما في فوزه. أمور أخرى جاءت على هواه؛ فبينما كانت الحملة الانتخابية في قمتها، ورومني يكاد يسرق البيت الأبيض من أوباما جاء إعصار ساندي، وفيه تجلت قدرات أوباما القيادية كما لم تتجلّ طوال السنوات الـ4 الماضية، وفاز بتركيز الإعلام عليه لمدة 3 أيام كاملة عاشها رومني في الظلام الإعلامي. ولأن الحظوظ لا تأتي فرادى، فقد جاء آخر تقرير اقتصادي مبشرا، عندما أشير إلى أنه تم خلق 179 ألف فرصة عمل إضافية، فأعطى الرقم مصداقية لقول أوباما إن المجتمع الأميركي في طريقه للخروج من النفق المظلم والخروج إلى الأضواء الساطعة للصحة الاقتصادية والمالية.
بقي أمر ظل دائما لصالح باراك أوباما، وهو الفارق ما بين التأييد الشعبي وأصوات المجمع الانتخابي. هذه الأخيرة أعطت لأوباما نوعا من الطمأنينة؛ فإذا كان رومني قد نجح في كسر تفوق أوباما لدى الشعب، فإنه لم ينجح أبدا في أن يكسر تفوقه لدى الولايات. هذه الأخيرة حملت أوباما مرة أخرى إلى البيت الأبيض، ومعها فارق ضئيل لصالحه من الأصوات الشعبية.
وهكذا عاد الأفريقي إلى البيت الأبيض مرة أخرى لكي يستكمل دورته الرئاسية، وفي العادة فإن العرب يتسابقون لكي يؤكدوا أنه لا يوجد فارق بين هذا وذاك، لأننا جعلنا من الصراع العربي - الإسرائيلي الفيصل في التقدير والتقييم، ولكن أمورا أخرى لا بد أن يتم حسابها، وفيها ما إذا كان أوباما قادرا على إنقاذ العالم من أزمته الاقتصادية التي تتعمق في أوروبا، وإلى أي حد يمكنه معالجة الأزمة مع إيران، وهل يمكنه أن يجذب الصين وروسيا إلى حضن الأغلبية العالمية في سوريا؟ أمور كثيرة سوف تكشفها الأيام.