الكرامة السياسية!

TT

لا يمكن لـ«الاستقرار» أن يولد من رحم الفوضى أو يكون نتيجة منطقية للشغب السياسي. وعليه، فإن أي مطالبات بالإصلاح تفترض حدا أدنى من الاستقرار السياسي، لكن الأمر على بداهته بدا مقلوبا الآن، فمعادلة «الربيع العربي» التي جسدها هي أن الفوضى والدخول للمعترك السياسي عبر بوابة الشعارات الكبيرة والمثالية هما الحل الأمثل لإيصال الصوت. إنه يشبه إلى حد ما سياسة «التلويح بالحرب» في العلاقات الدولية، الآن هناك أصوات متصاعدة في الخليج على صدى ما يحدث في الكويت، باتت تلوح بـ«الثورة» بما استقرت عليه دلالات الكلمة الآن من شيوع للفوضى وانهيار للاقتصاد وتفتت مكونات المجتمع إلى هويات صغيرة متناحرة.

في الكويت ديمقراطية «سياسية» متقدمة جدا، لكنها بلاعبين هواة تنقصهم مهارة الأجيال السابقة أو احتراف نموذج خارجي وليكن كالنموذج التركي الذي يُتغنى به دائما دون استنساخه. وبالتالي يتم الزج في معركة الاستقرار السياسي بمطالب «شعاراتية» من شأنها دغدغة الجماهير. وآخرها مصطلح «الكرامة» بما يحمله من دلالات نفسية وثورية، كرامة تعبر الدستور وتقفز عليه كما يريد أنصارها. في حين أن الكرامة في دلالاتها السياسية عادة ما تطرح كمرادف لاستلابها عبر الأحادية أو النظام الواحد الديكتاتوري، كما أن الكرامة هنا لا يمكن أن تحيل إلى «كرامة العيش» في بلد كالكويت؛ واحد من أكثر الشعوب تدليلا لمعنى الدولة الرعوية؛ مفردات العيش الكريم في الكويت من الصحة والسكن والعمل والتعليم وحرية التعبير، وكذلك حرية العبادة والاعتقاد، مكفولة لكل المواطنين، الجميع يعرف امتيازات المواطن الكويتي من قبل الحكومة التي تقترب من حدود التدليل، وليس مجرد «الكرامة».

إذن هي «كرامة» مخصوصة حتى في مجالها السياسي، حيث من ينادي بها الآن وبمقاطعة الانتخابات البرلمانية، ويخرجون في مسيرات ترفع شعار الكرامة هم من يزجون برموزهم السياسية البديلة، فيصبح الأمر مزوجا؛ كرامة تقفز على الدستور وأخرى تريد امتلاكه والحصول عليه.

الكرامة هي في اللجوء للمحكمة الدستورية، وليس للشارع، عبر استقطاب الجماهير وفرز المواطنين، هناك أساليب شرعية يكفلها الدستور للمعارضة، مثل المقاطعة السياسية والتجمعات المرخصة وقانون التظاهر السلمي.. إلخ. فلماذا يستبدل بها هذا الكم من الفوضى التي تقترب من حدود الترهيب المجتمعي عبر سلاح الـ«مع» والـ«ضد»، وذلك بسبب التخلي عن الدستور، صمام الأمان الوحيد.

الإشكالية في المجالس البرلمانية في تجربة كالكويت ليست بسبب قصور الدستور، وإنما في فشل التنظيم السياسي، قواعد اللعبة صحيحة لكن أداء اللاعبين السياسي منخفض جدا على مستوى البرامج والاستراتيجيات، في كل الدنيا المجموعات السياسية تتحول مع الوقت إلى أحزاب منضبطة بقواعد اللعبة ولا تظل على حالها كمجوعات معارضة فحسب، وهذا يقودنا إلى إشكالية أخرى لا تقل عن الأولى، وهي أن المجالس في الحالة الكويتية كانت معلقة بين خيارين دون أن تنجح في تطوير أحدهما؛ علاقتها بالحكومة، وبالشعب من جهة أخرى. لم تستطع الأحزاب الإسلاموية إقناع المواطنين بأنها الخيار الأمثل، لأنهم يبحثون عن تمكين سياسي (كرامة)، وليس عن برامج سياسية تقود إلى «كرامة العيش»، كما أنها لم تقترب من السلطة، ولو من خلال برامجها الجادة سياسيا، بحيث يصبح من المستحيل على أي سلطة تجاهل مطالب كتلك، ما يحدث هو إرادة للقفز على الدستور والسلطة التنفيذية مباشرة، وهو ما يقودنا إلى أصل الأزمة السياسية في تطبيقاتها العربية، وهي المغالبة بديلا عن المشاركة.

أزمة الكويت على مستوى تفوق الديمقراطية كأدوات دون نتائجها نابعة من طبيعة الدولة الريعية في شكلها التقليدي، حيث الاعتماد شبه الكلي على مورد النفط، دون تنويع لسياساتها الاقتصادية التي من شأنها أن تضخم حراك التنمية بعد أن أصيبت البلاد بتخمة سياسية (لك أن تتخيل أن نسب الاقتراع في تاريخ الانتخابات الكويتية تفوق بعض النماذج الديمقراطية الغربية المتقدمة).

تضخيم المناخ السياسي على التنموي من شأنه أن يعيق تطور الديمقراطية الحقيقية، لأن الدولة حينئذ ستسخر طاقتها في إحكام قبضة السلطة التنفيذية بهدف التحكم في سياسات النخب، في حين أن هدف الديمقراطية هو إدارة النخب الاقتصادية والاجتماعية المتنافسة، وهنا تكمن مشكلة فهم ملف الديمقراطية ودول الخليج إلى الحد الذي بات مرتعا سهلا للتسطيح، على طريقة أيهما أهم الديمقراطية أم التنمية؟ كما تتم مقارنته الآن بسذاجة سياسية في الحالة الكويتية - الإماراتية.

ألف باء الديمقراطية أن جزءا من سلطة الناخب هو حق مكتسب بسبب ما يقدمه من ضرائب للسلطة، ولو في شكل غير مباشر، عبر تحوله من مستفيد من رعوية الدولة إلى منتج ومحرر لاقتصادها من الاعتماد الكلي على النفط، وبالتالي فإن انخفاض منسوب التنمية وضعف الاقتصاد الريعي أو حتى ركوده لا علاقة له بسقف الحريات السياسية المسموح بها، بل يمكن أن يكون المزيد من الانفتاح السياسي في ظل وجود تكتلات غير سياسية، كالقبيلة والإسلام السياسي وكل المجموعات الصغيرة المنبثقة من تحالف آيديولوجي، عقبة أمام التقدم، لأنها ستعيق السلطة عن اتخاذ القرارات الإصلاحية، وبالتالي فإن الحالة السياسية ستتراجع نحو مزيد من الاستبداد، ولكنه استبداد مقلوب؛ فهو استبداد القوى السياسية والمعارضة عبر استغلال الديمقراطية لإعاقتها من الداخل.

تشعب الواقع الكويتي ربما يستدعي مثالا أكثر وضوحا، إذا ما استبعدنا أزمة العسكر في الثورة المصرية والطريقة التي قفز بها «الإخوان» على السلطة، وتجاوزنا ذلك إلى الأداء السياسي المحض، بعد أن ابتلع «الإخوان» السلطة، نجد أن الدستور المقترح لأول سلطة تصل بانتخابات نزيهة هو إعادة تأسيس للاستبداد، أو كما يعلق بعض المراقبين الغربيين «إعادة إنتاج للفرعون». مجرد نظرة سريعة لمسودة الدستور يمكن أن تكشف لنا حجم التشريع للاستبداد فيها، حيث الصلاحيات الواسعة للرئيس في علاقته بجميع القوى، البرلمان غير مستقل، الرئيس هو المخول للدعوة لاستفتاءات ملزمة في المصالح العليا للدولة!! كل ذلك بسبب أن بداية السقوط كانت في القفز على الدستور القديم، والآن المحصّلة هي الجمع بين نظام رئاسي ونصف رئاسي، وبالتالي فانتماء الرئيس للأكثرية يعني هشاشة دور المعارضة، وإذا كان أقلويا فالمحصلة معارك سياسية طويلة الأجل، وبالتالي جمود الحالة الاقتصادية والتنموية، أليس هذا مشابها لما يحدث في الكويت؟!

خلاصة الأمر أن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تكون جسرا يعبره المؤدلجون وأصحاب الرأي الواحد والفكر الشمولي الذي لا يرى في نفسه إلا نصيرا للحق، الذي يجب أن تقسر عليه العشيرة. جزء أساسي في بقاء الديمقراطية في تحويلها إلى نسق مستدام يكفل تدبير العلاقة بين مكونات المجتمع الممثلة سياسيا. ديمقراطية الغنائم التي نشهدها اليوم ستقودنا إلى الفوضى، وحينها سنسلب «الكرامة» بكل معانيها.