الديمقراطية في أول نشأتها

TT

طالما ذكرت أن الحكم الديمقراطي الناجح لا يأتي بشكل طفرة أو صفقة جاهزة، وإنما يمر بمراحل طويلة من التطور. ومن المفيد لنا أن نعرف شيئا عن تاريخها، وهو ما سأحاول سرده في الحلقات القادمة. أرجع بالقارئ إلى الخطوة الأولى التي قطعها الإنسان نحو هذا الهدف.. جرى ذلك في اليونان في أواسط القرن السادس قبل الميلاد وأخذ طريقه للازدهار في القرن التالي. تحير الباحثون في أسرار هذا التطور. لماذا توصل الإغريق من دون كل شعوب العالم القديم لهذا النوع من الحكم؟ وأنا من جانبي، ما زلت متحيرا لماذا مال الغربيون عموما لذلك، في حين تشبث الشرق بالحكم الفردي المستبد؟ فحتى في أسوأ مراحل التاريخ الأوروبي كانت هناك مجالس محلية في القرى والبلدات تصرف شؤون المجموعة.

المتفق عليه أن اليونان أصبحت مركزا لإمبراطورية واسعة في القرن السادس وتعاظمت الثروة فيها. والثراء يدفع الثري للسهر على ثروته وصيانتها بالسهر على سياسة بلده والمشاركة في تصريفها. ليس للفقير ما يعنيه من مصير بلده الذي لا يملك فيه شيئا.

العنصر الثاني هو أن اليونان كانت بلدا جبليا فانقسم إلى مجموعة دويلات صغيرة مستقلة ذات نفوس قليلة. يعني ذلك أن المواطن يسهل عليه أن يعرف المواطنين الآخرين ويتحاور معهم. وبالتالي يسهل عليه اختيار من يعتبره أهلا للحكم ويراقب عملهم ويناقشهم في السوق والمناسبات. كما يسهل على النواب أن يعرفوا بعضهم البعض ويتناقشوا داخلا وخارجا. وتجمعهم وحدة اللغة والدين والمصلحة. ولهذا سهلت إقامة الديمقراطية في بلد صغير كالكويت وإنجلترا، وصعبت في بلد واسع متنوع كروسيا والصين.

الملاحظ أيضا أنهم طبقوا الحكم الديمقراطي على مراحل وبأسلوب التجربة والخطأ، وليس بشكل عبوة تشترى جاهزة.

بالإضافة إلى ذلك، سهلوا العملية بحصر حق الاقتراع بالمواطن الأصيل وحرموا النساء والعبيد والغرباء من هذا الحق. وكان الاقتراع يجري بصورة مباشرة.. يضعون قارورات كبيرة يمثل كل منها مرشحا معينا. وكان حق الترشيح مطلقا للجميع. يأتي الناخب فيلتقط قحفا من قحوف إناء مكسور ويضعه في قارورة المرشح الذي يؤيده. ثم يجري حساب عدد القحوف في كل قارورة، فيفوز من حصل على أكبر عدد من القحوف. يجتمع النواب ويتناقشون ويقررون في مكان مفتوح يستطيع أي مواطن أن يتفرج عليهم ويستمع لمناقشاتهم. وتصدر القرارات برفع الأيدي. ولم يدفع الإغريق رواتب للنواب، فكانوا يعتبرون هذا العمل خدمة عامة. ضمن ذلك الحصول على نواب لم يطمعوا برواتب، وإنما همهم خدمة بلدهم ووجدوا في أنفسهم الكفاءة لذلك.

ترسخ هذا الحكم في أثينا وسموه «ديمقراطية» اشتقاقا من «ديموس» التي تعني الشعب، و«قراطي» التي تعني الحكم، فيكون المعنى «حكم الشعب». لم يقف الفلاسفة، وعلى رأسهم سقراط وأفلاطون، موقفا إيجابيا من حكم الشعب واعتبروه حكم الرعاع والجهلاء، الأمر الذي جعلهم يعتقلون سقراط ويحكمون عليه بالإعدام.. فكان أول شهيد لا للديمقراطية وإنما لمعارضتها.